في سوريا كان اسمهم «اللبنانيين» ومع الأزمة تحولوا إلى «سنة وشيعة ومسيحيين وعلويين» (بومدين الساحلي)
طلب أحمد المصري، النازح اللبناني من قرى ريف القصير إلى مشاريع القاع في البقاع الشمالي، طلباً يتيماً من الرجل الذي سمح له بالعيش في ملكه: «أريد أن اشرب قهوتي صباح كل يوم على سطح منزلك». استغرب الرجل المضيف طلب ضيفه، فاستدرك الأخير موضحاً «من عندك بقدر شوف بيتي بالنزارية». ومن يومها، منذ نحو سنة ونصف السنة تقريباً، واظب المصري على الصعود إلى سطح منزل مضيفه، ليس لشرب القهوة فعلياً، وإنما ليكحل عينيه برؤية منزله المؤلف من ثلاث طبقات وأرضه من حوله.
«خط النار» عند حدود منطقة الدورة في مشاريع القاع، لا يبعد أكثر من مئتي متر عن المنازل الأقرب في النزارية المقابلة. حاجز الجيش السوري نفسه المرابض على الحدود يمد أسلاكه الكهربائية من الدورة، فيما يمكن للسكان التحدّث مع أفراده، إن قصدوا، من على مصاطب الدور.
قبل نحو شهر، وفيما كان أحمد يهم بارتشاف فنجانه الأول، تسمرت يده و«بظت عيناه» كما تصف زوجته المشهد. أصاب صاروخ، سمع دويّه كل سكان المنطقة، منزل أحمد، تلاه صاروخان ثان فثالث، ومع الرابع، انهار المنزل، ومعه جنى العمر وتعبه.
من يومها، لم يعد للقهوة طعم، ومعها، لم يعد من حاجة لسطح منزل صاحب المزرعة. وتحوّل أحمد إلى عامل زراعي صامت لا قدرة له على الكلام مع أحد. كان ينتظر انتهاء الأزمة ليعود إلى دياره منهياً «تجربة ذل طويلة في وطني»، كما يصفها. اليوم لم يعد له مكان يعود إليه.
قبل يومين، رفع المصري صلاة «الشكر» الأولى لربه عندما رأى عشرات العائلات التي نزحت مؤخراً عن بعض مناطق القصير وريفها، وقد سكن أفرادها مع أطفالهم تحت الأشجار في مزارع المشاريع: «على الأقل قاعدين تحت سقف، وأولادنا عم يناموا على فرشة اسفنج»، يقول أحمد. صحيح أن أحمد يعمل مع زوجته وأطفاله في مزارع مشاريع القاع ليحصّلوا لقمة عيشهم اليومية، ولكنه، يحمد الله لأنه لا يسكن في «مخيم الشجر»، كما يصفون في المشاريع اليوم تلك البقعة الجغرافية التي تقطنها نحو خمس عشرة عائلة، لبنانية وسورية، نزح أفرادها مؤخراً إلى المنطقة. أطفال ونساء ورجال لم يجدوا سوى في ظلال الأشجار وكعوبها ما يؤويهم.
مع إشتداد معارك ريف القصير الأخيرة، التي سيطر بنتيجتها الجيش النظامي وحلفاؤه على شريط قرى ريف القصير من سقرجا ومحيطها إلى جوسيه وخرابها، نزحت مئات العائلات السورية واللبنانية نحو الداخل اللبناني.
«شحادين يا بلدنا»
توزع الداخلون بالدرجة الأولى عبر البوابة العرسالية، في عكار، وتحديداً في وادي خالد وجبل أكروم، فيما بقي البعض، وخصوصاً الذين لا يحملون هويات أو دفاتر عائلية، في مشاريع القاع. في العادة، يفضّل النازحون اللبنانيون البقاء في مشاريع القاع لقربها من قراهم وأراضيهم من جهة، ولأن أوضاعهم تختلف كثيرا عن أوضاع النازحين السوريين، من جهة ثانية.
يجد بعض النازحين السوريين من يحتضنهم من المنظمات الدولية وحتى المحلية، أحياناً. أما «العائدون إلى وطنهم»، كما يصفهم المجتمع الدولي، وعلى أساسه يعاملهم، فقد تيتموا فعلياً مع فقدانهم «وطنهم الأساسي» سوريا، حيث كانوا ينعمون بالاستقرار. هناك، كانوا يجدون الدعم الزراعي نفسه الذي يتلقاه السوريون، أبناء الأرض. وهناك، علموا أبناءهم وتطببوا بالمجّان، وعاشوا من دون أي تمييز بحقهم. وحده النزوح ميّزهم عندما لم يجدوا من يسأل عنهم في وطنهم.
هنا، لم تعترف بهم المنظمات الدولية لأن خدماتها لا تشملهم: «أنتم في وطنكم وعليه أن يتحمل مسؤولياته تجاهكم»، قالوا لهم. ولم تعترف بهم دولتهم التي ما زالت نائية بنفسها عن مواطنيها كافة. هنا، أضحوا أيتاما فعلا، خطيئتهم تعود إلى «سايكس - بيكو»، حيث بقوا فوق أراض صنفت بالسورية، واحتفظوا بهوياتهم اللبنانية.
لم يصلهم من بلادهم إلا بعض فتات الحصص الغذائية التي وصلت لبعضهم من «الهيئة العليا للإغاثة». وفي ظل تخلي الدولة عنهم، عملت بعض الأحزاب والجهات، الدينية بالدرجة الأولى، على مد يد العون لبعضهم، وإن بشكل جزئي لا يسمن ولا يغني عن جوع. خلال الحرب الأهلية، حسد كثير من اللبنانيين أقرانهم من سكان سوريا. لم يعرف هؤلاء، الذين يراوح عددهم ما بين ثلاثين وخمسين ألف لبناني مقيم في الجارة الشقيقة، جحيم اقتتال الأخوة وأبناء البلد الواحد في حرب دارت رحاها على مدار أكثر من خمسة عشر عاماً. اليوم «إجا دورنا»، يقول لبناني نازح من جوسيه، كان منشغلا في «حواش» الفول الأخضر.
عندما اندلعت الحرب السورية قبل عامين وبضعة أشهر، قال السوريون لجيرانهم اللبنانيين «إنتو شو فارقة معكم». كانوا يرمون إلى أنهم سيتركون منازلهم ويعودون إلى وطنهم الأم «بترجعوا ع بلادكم، مش متلنا». اليوم، يأوي بعض النازحين السوريين لدى عائلات لبنانية في المنازل التي استأجروها من هذه العائلات، فيما ما زال لبنان، وطنهم، لا يمتلك رقماً دقيقاً لأعدادهم النازحة منها، أو تلك الصامدة في الداخل السوري، كما أنه ليس لدى أي جهة رسمّية خارطّة تبّين أماكن نزوحهم وتوزعهم بشكل دقيق.
لم تعد قصة النساء الحوامل من النازحات اللبنانيات اللواتي يلدن ببطاقات النازحات السوريات بجديدة. صار بعض السوريين يعطفون على النازحين من اللبنانيين، ويتقاسمون معهم بعض الحبوب والإعانات الغذائية التي تصلهم أحياناً. «تحوّلنا إلى شحادين في بلادنا» كما يقولون.
عودة إلى الطوائف
في سوريا كان اسمهم «اللبنانيين». كانوا كتلة ديموغرافية واحدة. مع الأزمة السورية، والانقسام الداخلي اللبناني حولها، ومع تطييف الأحداث السورية على الطريقة اللبنانية، تحول اللبنانيون المقيمون في سوريا إلى «سنة وشيعة ومسيحيين وعلويين». وتكرّس «انتماؤهم» اللبناني واقعياً وفعلياً. نزح اللبناني السني إلى مشاريع القاع «ربيبة عرسال» وبوابتها الأسهل على الداخل السوري، ومعها جبل أكروم ووادي خالد في عكار. فيما قصد الشيعة من بينهم الهرمل ومحيطها وبالتحديد حوش السيد علي والقصر، وامتدوا نحو جنوب لبنان من النبطية إلى صور وبنت جبيل ومرجعيون. أما اللبنانيون من المسيحيين فلجأوا إلى القاع ورأس بعلبك، ووصل بعضهم إلى زحلة وبيروت. يدور الحديث عن وجود ثلاثين إلى أربعين ألف نازح لبناني، بالرغم من عدم وجود رقم دقيق لدى أي جهة.
يقول مختار حوش السيد علي، التي يقع نصفها في سوريا والنصف الثاني في لبنان، محمد ناصر الدين، أن هناك نحو 65 عائلة لبنانية نازحة في الحوش اللبنانية، مؤكدا أنه لم تصلّ لأي منهم أي حصص غذائية «لا من جهة دولية ولا من أي جهة لبنانية».
يسكن بعض هؤلاء في بيوت أقاربهم، فيما بنى بعضهم غرفاً من حجر «الخفان» على عجل وسقفوها بـ«الإترنيت» اتقاء لبرد الشتاء وصفير رياحه.
تقول إحدى سيدات الحوش إن منزلها يمتلأ بالأطفال والنساء ليلاً. تخاف النسوة النوم مع صغارهن في الجزء السوري من الحوش السورية من تسلل المسلحين ليلا. كان الخوف أكبر قبل سيطرة الجيش النظامي وحلفائه على شريط قرى غرب العاصي.
تفصل «الحوش» عن جزئها السوري ساقية ماء متفرعة من نهر العاصي. ليس بعيداً عن «الحدود» تجد كوما وتلالا من الحطب وكعوب الأشجار. «هذا مشمش، وذاك تفاح، وتلك الكومة الكبيرة هي من حطب الكرز»، يقول المختار. قطع اللبنانيون بساتينهم المثمرة بعدما تيبست بسبب تعذر ريها والاهتمام بها. بساتين كانت تعيل عائلات بكاملها في ظل الاهتمام بالزراعة كقطاع منتج في سوريا ما قبل الحرب.
اليوم، لم يعد هناك بساتين، وتقول أخبار القرى «الجوانية» أن لا بيوت ولا أثاثات. فعل المخربون ومرتزقة الحروب من الطرفين فعلهم ببعضهم البعض. نهب وحرق وتدمير. الحرب لم تطل البيوت والأملاك والأشجار المثمرة ومعها حقول الفول والقمح والخضار فحسب، بل طالت أيضا التجارة الحدودية التي كانت منتعشة من الجهتين، وبات الناس، من مقيمين ونازحين، «بلا شغلة ولا عملة»، ولا من يسمع ولا من يرى.
في مدرسة الحوش يروي مديرها، إبن ربلة المسيحية، أن واحدا وتسعين تلميذا تسجلوا في المدرسة، ولم يتمكن أيّ منهم من دفع قرش واحد. ينام المدير في المدرسة لكي لا تعيقه صعوبة التنقل بين ربلة والحوض من فتح مدرسته أمام التلامذة الصغار. ثلاثة أشهر ومدرسة الحوش لم تنعم بالكهرباء بعد. تعطل المولد ولم تستجب شركة الكهرباء للدعوات والطلبات لتصليحه. «لا يحق للفقراء والنازحين التعلم»، تعلق إحدى الأمهات التي جاءت تصطحب أطفالها. الأم نفسها اشترت لولديها مصابيح على البطاريات ليستعينوا بها لدى قراءة دروسهم في الصف.
في الهرمل: 70 عائلة
يبدو النازحون اللبنانيون في الهرمل أفضل حالاً من نازحي الحوش. وفقاً لـ«تقسيمات» التحالفات لجأ النازحون الشيعة من اللبنانيين إلى الهرمل، فيما هناك عائلات سنية سورية كثيرة فيها. تقول مصادر «حزب الله» في المنطقة أن الحزب يؤمن السكن للعائلات اللبنانية النازحة وعددها نحو سبعين عائلة. جاء هؤلاء من قرى أم الدمامل والديابية وغوغران في ريف القصير، ومن البياضة وبابا عمرو في حمص. وبالإضافة إلى السكن، يتسلمون حصصاً غذائية عائلية كل شهر، ويتطببون في المستشفى التابع للحزب في المدينة. هؤلاء أيضاً استلموا مساعدات مرة واحدة يتيمة من المجلس الدانمركي، ولم تتكرر القصة بعدها. أمّا في مشاريع القاع، فيسكن النازح اللبناني الحاج أحمد عامر الملقب بـ«عارف» مع 35 شخصا من عائلته في خيم نصبوها في أحدى مزارع مشاريع القاع على الحدود مع سوريا. نزح الرجل من النزارية مع أولاده وأشقائه وعائلاتهم منذ سنة وثلاثة أشهر. لم يتركوا باباً رسمياً إلا وطرقوه من دون جدوى.
بالقرب من الخيم، توجد غرفة صغيرة لمولد الكهرباء الخاص بالمزرعة. خلال الشتاء كانت العائلة تجمع صغارها وتنقلهم ليلاً للنوم بالقرب من المولد خوفاً من انهيار الخيم على رؤوسهم، ومن المطر الذي يتساقط من اللافتات والرقع المصنوعة من القماش التي نصبوا بها خيامهم.
يُقسم عامر أنهم تلقوا «كرتونة إعاشة واحدة من الهيئة العليا للإغاثة عن طريق بلدية الشواغير حيث ينتخبون». حتّى اليوم، أنفق الرجل مبلغ مئة ألف ليرة سورية أحضرها معه من سوريا. هناك في النزارية، يمتلك مئة دونم من الأراضي. «البيوت تهدمت والأرض خربت والنصوب يبست»، يقول بحسرة الذي فقد كل ما يربطه باستئناف الحياة.
غالباً ما يسهر كبار عائلة عامر ليحرسوا صغارهم مداورة. تم تنظيم نوبات الحراسة بعدما لدغ عقرب كنتهم وكادت تفقد حياتها لولا تبرع إحدى السوريات بمنحها بطاقة اللجوء التي غطت كلفة إسعافها.
«خبرية العقرب» دفعت النازح عبد الكريم المصري إلى البحث عن أربعة جدران تقيه شر «التخييم» في البرية. قصد منطقة الدورة في مشاريع القاع ووجد حظيرة بأربعة جدران. استأذن صاحب المزرعة الذي يعيش في بعلبك، ونظّف المكان مع عائلته وسقفوه بـ«ألواح التوتيا» وسكنوه. ألواح لم تحمهم من أمطار الشتاء وثلوجه، وهو ما تسبب بإصابة بعض الأطفال بالأمراض الصدرية.
تعتاش العائلة من عمل الابن البكر في المزرعة براتب لا يتجاوز المئتي ألف ليرة لبنانية. الإبن الثاني يعمل في أحد محال «السمانة» في منطقة العين. يعطيه صاحب الدكان الكبير مبلغ خمسة آلاف «يومية»، ويسمح له بالنوم في غرفة صغيرة ملتصقة بالدكان ويطعمه أيضا: «على الأقل أكلته ونومته مؤمنين»، يقول الأب. يتعذّر على الرجل ارسال الأطفال إلى المدرسة بسبب كلفة الألبسة وإيجار «الأوتوكار».
يقول ممدوح الراضي، الذي يهتم بشؤون النازحين في منطقة الدورة التي تقع يسار الطريق الدولية في مشاريع القاع، إن هناك ما لا يقل عن 151 عائلة لبنانية نازحة إلى هذا الجزء من المشاريع، فيما يؤكد أبو حسين الأطرش أن عددهم في منطقة الجورة في المشاريع والتي تقع إلى يمين الطريق الدولية على الحدود مع سوريا، لا يقل عن مئتي عائلة موثّقة. يُجمع الطرفان على إهمال النازحين اللبنانيين من جميع الجهات، مشيرين إلى ورود بعض المساعدات من جهات دينية لا أكثر ولا أقل.
المونّسة في جبل أكروم
نالت الموّنسة، القرية الثانية بعد أكروم في الجبل الممسك بالحدود الشمالية العكّارية لناحية جرد آل جعفر في جرود الهرمل، حصتها من النزوح اللبناني والسوري. تمتد القرية نحو الحدود السورية حيث تحدها المناطق المؤدية إلى قرى البرهانية وهيت والبويب. ومن هذه القرى جاء النازحون اللبنانيون كما جاء السوريون. يقول مختار المونسة فضل الله الفحل إن عدد العائلات اللبنانية النازحة في المونسة يتجاوز الأربعين عائلة «ومع ذلك لا يسأل عنهم أحد». فتح الأهالي بيوتهم للنازحين من دون أن يطالبوهم بأي مقابل كإيجار. ولا يكتفي الأهالي بفتح بيوتهم بل يساعدون غير القادرين من بينهم على تأمين حاجاتهم، عندما يستطيعون.
يوجد في المونسة كثير من الأطفال النازحين الذين لم يذهبوا إلى المدرسة بسبب الألبسة «ما عندهم تياب، كيف ببعتهم»، تقول أم فراس مبررة وجود أولادها الخمسة في المنزل صباحاً. وجد النازحون اللبنانيون في المونسة بعض فرص العمل المحدودة، في البناء والزراعة بالتحديد. أما المستوصف الذي يأتي جوالا مرة كل أسبوعين فإنه يصل في غالبية الأحوال من دون حبة دواء «ساعتها منستأنس بزيارة الفريق الطبي المرافق»، تهزأ أم فراس بمرارة.
لا يوجد في جبل أكروم المؤلف من سبع قرى مستوصف واحد، فيما تحتاج العائلة إلى نحو أربعة صهاريج ماء من النبع بكلفة لا تقل عن ثمانين إلى مئة ألف ليرة.
تعليقات: