سلامٌ عليكِ أمي
I
منذ أربع سنوات ، وفي مثل هذا اليوم ،
عند الساعة الرابعة من فجر ذلك اليوم الأسود،
دق هاتف الموت،
من يكون يا ترى؟
"بسرعة تعالي، الوالدة تعبانه"
"قالت زوجة أخي" ،
كنا قد اعتدنا حدوث هذا الأمر من فترة لأخرى،
ولكن تلك المرة، لم تكن ككل المرات ،
هرعت أنا وزوجي وأولادي ، ولأول مرة آخذ معي أولادي
أرادو مرافقتي، وكأنه كان يساورهم شعور مخيف،
وهم الذين تربوا على أيديها ، ويعشقونها، وتعشقهم،
وصلت هناك، وكانت سيارة الإسعاف عند مدخل البيت
ابتلعت أقدامي سلالم البيت،
كنت أطير بالرغم من شعوري بالشلل
أين أمي؟ أين أمي؟
إنها في الحمَّام،
دخلت ، وبصعوبة حيث كانت جالسة بوضعية استلقاء خلف الباب
كانت مغمضة عيناها ، متنهدة ، وجهها يتلألأ نوراً
أمي ، أمي ، كلميني أنا وفاء ابنتك،
لما لا تردين عليَّ ؟ أنا حبيبتك وفاء،
لكنها لم تردّ عليَّ، وتلك كانت المرة الأولى في حياتي التي أنادي بها أمي ، ولا ترد عليَّ،
سلخوني عنها، بالقوة، بأوامر من المسعفين والأهل والأولاد،
عشت حالة من الهلع، حاولت التسلل لرؤيتها ، لكن دون فائدة
انتهى المسعفين من تحديد حالتها ونزلوا للأسفل ،
ولحق بهم إخوتي وزوجي،
وحاصروني أولادي كي لا أدخل لرؤيتها،
كيف ذلك، أأترك أمي وحيدة، ونحن كلنا مجتمعون
أأتركها وهي من تحب جمعتنا،
هكذا وبكل بساطة، ممنوع الدخول،
إنها أمي أنا، لا أستطيع تركها وحيدة، حرام،
صعد زوجي، ركضت إليه، هـه محمد ، ماذا قال الطبيب
أمي بخير، أريد أن أراها،
وكانت الصاعقة، "عظم الله لك الأجر بوالدتك"
وكانت الصرخة الزلزال، التي ما تزال ارتداداتها في داخلي ،
وصداها في أذني،
وهكذا بدأت الأشياء كلها والأيام كلها تأخذ معي منحىً مختلف،
وكأنني دخلت في تقويم جديد، أجهل كل شيء فيه،
أمضت أمي آخر أسبوع من حياتها عندي ،
وهذا ما يثلج صدري،
وفي ليلة وفاتها ، وليلة وفاتها فقط،
حضر أخي ليأخذها معه إلى منزله
ما زلت أذكر ذلك اليوم، قبل الغروب،
كيف توضأت استعداداً للصلاة،
ما زلت أذكر، كيف قبلتني وودعتني ،
أنا وزوجي وأولادي، وكالعادة قالت،
سامحوني،
والتفتت إليَّ مرة أخرى وقالت، "تعالي أقبلك ثانية"
ومضت، وكان الوداع،
ودعتني قبل أن تموت،
رحلت ، وبدأ الفـراق،
في طريقها لبيت أخي ، أرادت أن تزور خالتي، فزارتها
وأهدت السلام لأولادها وجيرانها
كما تمنت أن ترى بنات أخي ، فحضروا للسهرة ،
دون سابق تخطيط،
كانت ليلتها سعيدة ، راضية ، هادئة،
وكانت رغباتها تنفذ بتخطيط ، أو بدون تخطيط ،
قامت بما تحب أن تقوم به
سهرت ، وضحكت ، والملفت بأنها حددت نهاية عمرها تلك الليلة
وكأنها تنعي نفسها قائلت: "عشت 90 سنة مروا بلمح البصر"
في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل،
وبعد يوم حافل ، دخلت غرفتها ، لتنام،
وقبل بزوغ الفجر ، وكعادتها،
استيقظت استعداداً لأداء صلاة الصبح،
توضأت ، ومن ثم بكل هدوء هوت أرضاً ، ورحلت،
إلى حيث صلاتها مقضية، وأعمالها بإذن الله مرضية،
أهديكِ السلام أمي، حيث أنت،
أهديك السلام أمي، منبع الطهر وقِبلة الحنان، والمثل الأعلى
أتحرق شوقاً لرؤية وجهك،
وكل يوم شوقي إليكِ يكبر، وحاجتي لكِ تزداد
ويأبى النسيان أن يبعدك عن ذاكرتي ،
ويأبى الفراق أن يحول بيني وبينك
لا أنت ، ولا أبي، ولا جدتي ،
ولا كثير من اللذين تركونا، وأخذوا معهم قطعة منا.
لأجلكم استسلم النسيان، وهُزم الفراق،
وبقيتم أنتم حاضرون ،
سلامٌ عليكم،
تعليقات: