انتصار المقاومة عام 2006 كان ينبغي أن يستكمل من خلال «جهاد أكبر» (أرشيف)
الخامس والعشرون من أيار عام 2000 هو يوم من أيام لبنان والعرب الخالدات! إنّه يذكر بتلك الوقائع العظيمة، اللاهثة والمفاجئة (نسبياً)، لحظة قرّر قادة العدو الصهيوني أن يدبروا وينفذوا انسحابهم من لبنان في ليل: لا يلوون على شيء. لا يعبأون بعميل أو بدليل أو بنتيجة. بات قرار الهروب هو ذروة ممارسة الشجاعة! أما النظر في التوقعات والنتائج والتداعيات، فلم يخطر على بال صُنّاع القرار في دولة الاغتصاب، ما دام ليس بالإمكان أسوأ مما كان وسيكون!
تسابق، يومها، سياسيو العدو لجعل الانسحاب من لبنان هدفاً يعدون به المواطن ــ الناخب الإسرائيلي. إيهود باراك، «بطل» عملية غزو شارع فردان (رشيد كرامي حالياً) واغتيال عدد من قادة المقاومة الفلسطينية، صار هو نفسه، «بطل» عملية «الفرار الكبير» بعد نحو ثلاثة عقود. توّجت تلك اللحظة التاريخية مساراً رائداً من تجربة المقاومة الشعبية التي بادر إلى اطلاقها شيوعيون ويساريون وقوميون ووطنيون لبنانيون وفلسطينيون، والتي شارك فيها، مبكراً، متدينون حفَّزت الثورة الإيرانية نزوع الجهاد والإنجاز، والدور في مسيرتهم وأهدافهم.
نعم، المقاومة، بكل تلاوينها، هي التي انتصرت عام 2000 ولم يكن مَن تراجع فيها، أو حتى تعطل، يصدر عن قرار اختياري. عوامل موضوعية عديدة، خارجية ومحلية، هي التي شكلت العامل الرئيسي في تراجع هذا أو تقدم ذاك. هذا لا ينفي أن بعض التراجع أو الانقطاع قد كانت أيضاً وراءه أسباب تقصير ذاتي، وأن بعض التقدم والنجاح، قد كانت وراءه، أيضاً، جهود ونجاحات ذاتية وخاصة.
وفي معطيات تلك المرحلة، إن هدف التحرير قد تقدم على ما عداه، وان كانت في الخلفيات، بالطبع، أهداف ومشاريع وبرامج متباينة. إن تقدم هدف التحرير قد شكّل أحد مشتركات حالة تحالفية تبلورت في محور اقليمي رفع شعار «الممانعة» وحمل لاحقاً اسمها. وحيثما تقدم هدف التحرير، ولو افترقت الخلفيات، فقد سارت الأمور جيداً، على مستوى توفير الدعم السياسي والشعبي، وعلى مستوى تأمين حجم كافٍ من الإجماع ضد العدو وحماته. برز ذلك في مرحلة ما قبل تحرير عام 2000، وبرز أيضاً في التعامل مع العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006. لكن العدو لا يقاتل على جبهة واحدة وبسلاح وحيد. وهو، ممثلاً بالإدارة الأميركية والصهاينة، كان يبحث عن «كعب أخيل» المقاومة (أي نقطة ضعفها) في تجربة وبنية المقاومة نفسها. ويستطيع المراقب اليوم أن يستذكر كيف أن العدو الصهيوني قد بكّر في إبراز الانتماء الديني، ومن ثم المذهبي، لجزء من المقاومين. كان يهمل، بالمقابل، دور مقاومين لا هوية دينية أو مذهبية لبرنامجهم أو لتعبئتهم أو لتحالفهم. كان ذلك إشارة واضحة إلى أن العدو وحلفاءه سيستخدمون هذا الأمر مرتين: مرة لتبرير المشروع الديني العنصري للصهاينة، ومرة لحشد المؤيدين له في مواجهة «المتطرفين» الذين يتهددون وجوده بوصفه قاعدة سياسية للغرب، وبزعم أنه جسر حضاري للقيم الانسانية وللحرية.
انتصار المقاومة في تموز عام 2006 كان ينبغي أن يستكمل من خلال «جهاد أكبر»: المقصود مراجعة الأساليب والعلاقات، وصولاً إلى بعض الأهداف والكثير من الأولويات. الإدارة الأميركية كانت قد لجأت يومها إلى مواجهة اخفاقاتها عبر إدارة حرب أهلية مذهبية في العراق. سلاح الانقسام المذهبي أُشهر كأنجح الأسلحة لإضعاف الأعداء ولتحويل بعض تبايناتهم القديمة إلى حروب أهلية جديدة. محاور وأحلاف انشئت لهذا الغرض. قمم ولقاءات دولية عقدت بهدف خدمته. علاقات وتحالفات جديدة برزت دون قفازات: إسرائيل باتت حليفة وحامية لا دولة عدوان واغتصاب.
ويمكن إيراد جردة بمحاولات الإرباك والإضعاف التي استهدفت «محور الممانعة». جميعها انطلقت من ثُغَره الداخلية. والثُّغَر جميعها تقريباً، قائمة في البنية الداخلية: مشكلة الأقليات، والعامل الديني والمذهبي، وقضية المشاركة والحريات. تعرضت إيران لاختبار كبير عام 2009 ودخلت سوريا أزمتها الكبرى عام 2011 وانخرط حزب الله في الصراع الداخلي السوري عام 2013.
يقتضي الوضع المراجعة والنقد، وطلب المزيد من المعرفة والوعي، وتنفيذ عملية تحسين وتغير دائمين، وعدم الاكتفاء بتكرار صيغ الماضي. ما كان مفيداً في مرحلة، قد لا يستمر كذلك في مرحلة جديدة. الأعداء يلجأون إلى أدوات جديدة باستمرار، وهم بالطبع، يتداركون، في مجرى الصراع، كبواتهم واخفاقاتهم. بعد حرب تموز عام 2006 كانت «لجنة كاهان» لكشف أسباب الفشل. وبعد خسائر الجيش الأميركي في العراق كانت لجنة «بيكر ـ هاملتون». ادراك أسباب الفشل، بشكل موضوعي، هو مقدمة لا غنى عنها من أجل إزالة هذه الأسباب. ليس في قاموسنا وتجاربنا، عموماً، شيء من ذلك. لا نستدرك، لا نتوقع، لا نُراجع، لا نقرّ بخطأ، ولا نخضع، عموماً، تجاربنا ومواقفنا وعلاقاتنا وبرامجنا وأساليبنا للبحث والتدقيق والنقد. لم نكتشف، مثلاً، أنّ المذهبية ذات استخدام مزدوج: يوم لنا ويوم علينا. لم ندرك أن تحرير الأرض، لا ينبغي أن يكون سبباً لقمع حرية الإنسان. أكثر من ذلك، لم ندرك أن الحفاظ على السلطة لا يكون بوسيلة واحدة هي الإكراه والفرض، دون الوسائل الأخرى التي هي التعبير عن مصالح الأكثريات الشعبية والسياسية: مصالحها السياسية والاجتماعية والثقافية.
بعد ثلاثة عشر عاماً من لحظة التحرير تنأى انجازاته ويخبو وهجه. لكن تبقى تلك الانفعالات العظيمة التي اختبرناها يوم دخلنا من إحدى بواباته مع عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف ممن عاشوا لحظة مجد قد تكون استعادتها اليوم، حافزاً نحو اندفاعة جديدة ونصر جديد!
* كاتب وسياسي لبناني
تعليقات: