تحرير معتقل الخيام في 23 أيار 2000 (ضياء شمس)
هي 13 عاماً فقط. سنوات معدودة، لا تكفي لتمحو من الذاكرة ما حصل على أرض جنوب لبنان في مثل هذه الأيام. عبارة «الحمد لله اللي تحرّرنا» لا تزال تتردّد على ألسنة كلّ جنوبية وجنوبيّ قاسى من ظلم الاحتلال ومن اعتداءات عملائه. ليالي السهر الطويلة على وقع القصف المدفعي، وساعات الانتظار الطويلة على بوابات المعابر المذلّة، لا تزال آثارها واضحة في أكثر من مكان. معتقل الخيام، الذي اختلط فيه صراخ المقاومين الأبطال بدماء رفاقهم وآلامهم لا يزال شاهداً على ما كان.
وادي الشهداء (السلوقي) لا يزال بكراً، يحتضن تحت عدد من أشجاره رفات شهداء، وجراح فارّين من خدمة إلزامية في صفوف العملاء. أمهات الشهداء وحدهنّ يعرفن طريق أولادهن، والرجال الذين اضطروا مراهقين إلى الهرب من منازل ذويهم لا يزالون يتذكرون ليلة مخيفة عبروا خلالها الوادي لكي لا يخونوا أهلهم.
هي 13 عاماً فقط. سنوات معدودة لا تكفي لفقدان الذاكرة الموصوف الذي أصاب الكثيرين، ولا لحالة الإنكار التي يتعامل فيها البعض مع الحدث الأوّل الذي أفرح العرب بعد عقود من الهزائم والخيبات، وأرّخ لولادة فجر عربي جديد. في المناسبة المفصل في تاريخ هذه الأمة، بعض من ذاكرة وطن هزم إسرائيل.
المقاومة والتحرير: العيد المُضيَّع
اليوم ليس يوم عطلة رسمية. عيد المقاومة والتحرير عيد وطني، بحسب النص، لكن التعطيل فيه ممنوع. إنها بدعة فؤاد السنيورة التي لم تغيّرها «حكومة حزب الله». العيد الأجمل، عند سائر الأمم، تمزّقه في لبنان الكيدية السياسية
محمد نزال
فرضاً، تبخّرت قناة المنار فجأة، وكذلك إذاعة النور. وفرضاً أيضاً، قرّر حزب الله أن يحلّ نفسه، ومعه بعض الحلفاء، ترى هل يبقى ذكر لعيد وطني اسمه «المقاومة والتحرير؟». الجواب سهل، ولا يحتاج إلى استطلاع رأي، فكل لبناني يعرف أنه: «كلا».
قبل 13 عاماً، وقف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في مدينة بنت جبيل، بعد طرد الجيش الإسرائيلي من الجنوب، ليعلن أن هذا الانتصار هو لكل اللبنانيين.
مرّت 13 عاماً وتلك الذكرى تمرّ سنوياً على نحو خجول لبنانياً، أو بمعنى أدق «حكومياً». لولا الاحتفالات التي يقيمها حزب الله، وبعض القوى الأخرى، لما التفت البعض إلى أن هذا العيد هو ذكرى لأول مسمار حقيقي يدق في نعش إسرائيل. ذكرى لأول نصر عربي على العدو الأبدي «بلا قيد أو شرط». ذكرى للعيد الموصوف بـ«الكرامة المحض». مرّت 13 عاماً وكثير من القوى السياسية في لبنان، ومعها قواعدها الشعبية، تتعامل مع هذا العيد وكأنه مناسبة دينية لطائفة، أو طقس مذهبي لفرقة، في حين أن الجميع يقول إن إسرائيل هي العدو، وإن السيادة لا تتجزأ وهي تعني كل شبر من مساحة الـ 10452 كلم. لكن أين يذهب «الكيد»؟ كل شيء يبدأ في هذه البلاد بالكيد وينتهي بالكيد، إلى حد يمكن الناظر من بعيد إلى هذه المساحة أن يدرك، دون كثير تحليل، أن هنا «لبنانات» لا لبنان واحداً. مضت 13 عاماً والحال كذلك. كان هذا العيد، وكان هذا السلوك اللبناني معه، قبل الربيع العربي، قبل أزمة سوريا بكثير. قبل النأي بالنفس أو الزج بالنفس بكثير. الكيد في لبنان راسخ كما الأرزة على علمه، وبعيد جداً في ذاكرة شعبه، أو شعوبه، أبعد من الشام والقصير والأزمة السورية.
عام 2005، ومع وصول فؤاد السنيورة إلى رئاسة الحكومة، صدر مرسوم حكومي قضى بإلغاء عيد المقاومة والتحرير من قائمة العطل الرسمية. أبقي على ذكره عيداً وطنياً، شكلاً، لكن من دون تعطيل في الإدارات الرسمية. قامت الدنيا ولم تقعد على هذا المرسوم آنذاك. لكن الإلغاء استمر. أبقى السنيورة على التعطيل في الأعياد الدينية، بين المسيحيين والمسلمين، لكن المناسبة التي تحمل طابعاً وطنياً طارت من القائمة. لم يعرف عن شعب من شعوب الأرض، قديماً أو حديثاً، أنه تساهل في ذكرى اليوم الذي تحرّرت فيه أرضه من الاحتلال. عند كل الشعوب، الغربية منها والشرقية، يمكن التساهل في كل شيء إلا في هذه المناسبات. لكن هنا لبنان، حيث كل الأشياء غير، وحيث خرق السيادة، الذي يمكن أن تنشب بسببه الحروب عادة بين الدول، يمر خبره إعلامياً إلى جانب أخبار الطقس، هذا إن مرّ أصلاً.
بعد إلغاء العطلة الرسمية، على يد السنيورة، قبل 8 سنوات، دخلت البلاد في صراع سياسي، كانت فيه السفارة الأميركية أبرز الحاضرين. كان العنوان يومها: «نزع سلاح المقاومة». هل كان ثمة ربط بين مرسوم السنيورة والسياسة التي طبعت المرحلة التي تلت؟ سؤال يبقى برسم الأجيال القادمة. فأعياد الاستقلال، بحسب الموسوعة الحرة، هي «تذكير للأجيال الناشئة بمدى معاناة الآباء من أجل الحصول على الحرية، وغرس روح المواطنة وحب الوطن في قلوبهم... وتتخذ معظم الدول هذا اليوم عطلة رسمية وطنية، وتُطلَق الألعاب النارية وتؤدى الرقصات الشعبية». بالتأكيد، يعلم الجميع أن اللبناني لا يشعر بأن أي عيد هو عيد إلا إن كان فيه عطلة رسمية. أن تقول للبناني هذا اليوم عيد، ولكن لا عطلة فيه، فكأنك تقول له نكتة، ولكنها نكتة سمجة لن يضحك لها. أما عن إطلاق الألعاب النارية، فهذه يمكن أن يشهدها لبنان لطلة زعيم من هنا أو سياسي من هناك، لكن لن تراها لعيد اسمه المقاومة والتحرير. أما الرقصات الشعبية، فخلال 13 عاماً لم نشهد رقصة من هذا النوع أمام القصر الجمهوري مثلاً، اللهم إلا إن أراد الرئيس الحالي ميشال سليمان كسر القاعدة هذا العام، وإقامة حلقات الدبكة مع الزجل الشعبي في قصره، مع موائد التبولة والكبة النية على شرف المشاركين و«المقاومين».
ذهب السنيورة، فجاء بعده سعد الحريري على رأس الحكومة، والعيد ليس عيداً، إلى أن وصل نجيب ميقاتي. ترأس حكومة سمّاها كثيرون «حكومة حزب الله». أكثر من عامين وهذه الحكومة تحمل هذه الصفة. لكن الغريب، أو غير المفهوم، أن يكون هذا الحزب مشاركاً قوياً في هذه الحكومة، ومع ذلك لا يعيد الاعتبار لعيد المقاومة والتحرير. لم يُعد لهذه الذكرى اعتبارها وطنياً، على المستوى الحكومي، من خلال إعادة تثبيتها كيوم عطلة رسمية. هذا والحزب من أهم الأحزاب المساهمة في صناعة التحرير، ومن أبرز دافعي ضريبة الدم والشهداء. لماذا لم يفعلها الحزب ومعه حلفاء أقوياء في الحكومة؟ سؤال برسم الحزب، ولو أنّ الجواب سيكون مجرد سهوة، أو اتخاذ بعجقة الأحداث، فهو حتماً من الأجوبة غير المقنعة. أحد نواب الحزب يقول: «هذا صحيح، كان يجب أن يحصل هذا، ولكن لم يفت الأوان. يمكن أن يقدم اقتراح قانون لإعادة تثبيت الذكرى كعطلة رسمية، من دون أن تكون هناك مذكرات استثنائية». وعلى سيرة المذكرات، أصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قبل أيام مذكرة قضت بأن يكون اليوم، السبت، يوم عطلة وطنية، فتقفل جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات وجميع المدارس والجامعات. هكذا، العطلة هنا وفقاً لمذكرة استثنائية، ففي العام المقبل قد لا يستنسب رئيس الحكومة، بغض النظر عمّن يكون، أن تكون هذه الذكرى يوم عطلة. إذاً، المسألة مزاجية، يبدو فيها رئيس الحكومة كمن يمنّ على اللبنانيين بقرار ذاتي منه، بدل أن تكون الذكرى يوم عيد ثابت، ليس لأحد، اليوم وغداً، حق منعه أو حتى المسّ به.
عساف أبو رحال «محرّراً» مزارع شبعا
قبل أن يحتدم النقاش حول «جنسية» مزارع شبعا وترسيمها، كان الزميل الشهيد عساف أبو رحال أوّل من أكدّ لبنانيّتها في 23 أيار 2000 مجرياً مقابلة مع اللبناني الوحيد المقيم هناك
عفيف دياب
أن تتحدّث عن ذكرى انتصار المقاومة وتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، بعد 13 عاماً، فهذا يعطيك دفعاً معنوياً جديداً في زمن فقدان الذاكرة وحروب زواريب الطوائف والمذاهب وملل المال. ملل تفعل ما في وسعها حتى تزني في فعل انتصار مقاومة كان جبناء يصفونها بالمجنونة لأنها فضحت انهزامهم أمام عدو رفع «العشرة» وخرج تحت جنح الظلام دون قيد أو شرط.
ذكرى انتصار المقاومة وتحرير الجزء الأكبر من الجنوب ليست حدثاً عابراً، أو تفصيلاً صغيراً في حياة الجنوبيين اليوم.
يحلو للبعض الرسمي وحتى الشعبي، أن ينسى، أو أنه نسي فعلاً هذا المجد العظيم المحروس بتضحيات شهداء لم ينصفهم هذا الوطن المأزوم. تجول جنوباً. ذاكرة أهل لم تخن «تحريرهم»، ولا انتصار مقاومتهم. ولهؤلاء وحدهم الحق في الاحتفال والفرح. فرح علّمهم كيف ينتصرون ويصمدون صوناً لزيتونهم وتينهم. فرح علّمهم كيف تبقى ذاكرتهم حية لا تخون، وأن الاحتلال لم يخرج بعد من مزارعهم وتلالهم حيث الرصاص اليومي يقتل بساتين كرزهم وتفاحهم ويسرق عذوبة مياههم.
في أعالي شبعا وكفرشوبا، المحتل لم يرحل بعد، والحقول الخصبة في مزارع بسطرة ورمثا والربعة وفشكول وخلة غزالة والقرن والنخيلة وزبدين وقفوة وبيت البراق ومراح الملول وكفردورة المشهد وتلال السماقة ورويسات العلم، تتمترس فيها الدبابات وغرف جند العدو ومدافعهم المصوّبة نحو حياة يقتلها برصاصه أيضاً النسيان الرسمي اليومي. مزارع وتلال نسيها بعض لبنان، وبعض آخر أزالها من ذاكرته ولم يعد يريد سماع «نصر وانتصار»، وبعض يتطلع الى استكمال مسيرة التحرير وحق مقاومة لا يضيع في استعادة أهل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لأراضيهم وحقولهم وبساتينهم المحتلة.
في ذكرى التحرير، يبقى شهيد «الأخبار» الزميل عساف أبو رحال شاهداً على لحظات عمر جميل، وحقبة من نصر مجيد كانت له بصمات في تحقيقه. حارس الحدود الجنوبية بأمانة وصدق، كان يرابط في أيار من عام 2000 على شرفة منزله في الكفير، ينتظر بفارغ الصبر لحظات الدخول الى حاصبيا وشبعا ومرجعيون وإبل السقي بعد طول غياب. يوم 23 أيار قررت وعساف الدخول الى مدينة حاصبيا المحتلة، وبث رسائل صوتية الى إذاعة صوت الشعب عن بدء تحرير القطاع الشرقي. رسائل أحدثت فعلاً شعبياً لم نكن نتوقعه. لم يبق عرقوبي أو حاصباني، مهجّر إلى البقاع أو صيدا أو بيروت، إلا وزحف نحو ميمس. حاصبيا وزغلة وعين قنيا وشويا استقبلت طلائع «الشعب» الزاحف، فاتحاً عهداً جديداً.
ظهر 23 أيار، جال عساف في شوارع حاصبيا فرحاً بالنصر. طارد دبابة ميركافا لالتقاط صورة لها قبل أن تصطدم بعمود كهربائي على طريق كوكبا ــ إبل السقي. الدبابة تهرب وعساف يطاردها. مطاردة لم تتوقف عند التقاط صورة لدبابة العدو المنهزمة. فيوم 24 أيار، كنّا أنا وعساف والزميلة هناء حمزة وفريق تلفزيوني فرنسي في مزرعة حلتا المتاخمة لمزارع شبعا. الراعي هيثم عبد العال أخبرنا أن لبنانياً يعيش تحت الاحتلال في مزارع شبعا، وأنه يمكن الوصول إلى الشريط الشائك عند مزرعة بسطرة والمناداة عليه لمقابلتنا. أقنعنا عساف بفكرة زيارة الراعي أبو قاسم زهرة الذي لم يغادر مزارع شبعا منذ أن سيّجها الاحتلال بشريط شائك سنة 1989. رحلة الوصول إلى الشريط الشائك تتطلب ساعة ونصف سيراً على الاقدام صعوداً في واد وعر. عثرت هناء على علم لبناني في مزرعة حلتا. حملته وقالت قد نستطيع رفعه فوق مزارع شبعا، أو يرفعه أبو قاسم زهرة فوق منزله.
عساف الذي وثّق تحرير منطقة حاصبيا والعرقوب، كلمة وصورة، وصل الى الشريط الشائك عند مزرعة بسطرة المحتلة. انتظر هناك حتى وصل الفريق، وتوزعنا الأدوار: ندخل أنا وعساف وعدنان والراعي هيثم إلى داخل بسطرة، وتنتظر هناء والفريق الفرنسي الآخر خلف السياج. حطّم هيثم بحجر قفل بوابة الحديد الإسرائيلية، وأخذ يصرخ «يللا فوتوا بسرعة». دخلنا ركضاً إلى بسطرة لتجنّب رؤيتنا من موقع الاحتلال في تلة رمثا.
من تحت سنديانة معمرة خرج الراعي أبو قاسم مستغرباً ومرحّباً بعدما علم بهويتنا «صرلي زمان ما شمّيت ريحة أهلي». أمضينا قرابة نصف ساعة في مزرعة بسطرة، كادت خلالها رصاصة إسرائيلية أن تقتل عساف وهو يسجل حديثاً مع أبو قاسم لنشره وتأكيد لبنانية مزارع شبعا، وأن لبنانياً وحيداً يعيش هناك رغم الاحتلال وممارسته. دورية الاحتلال الاسرائيلي التي طوّقت منزل أبو قاسم وأخذت تطلق الرصاص فوق رؤوسنا، طلبت أن يأتيها أبو قاسم. خرج العجوز المتعب من الأسر خلف الاسلاك الشائكة وأبلغ جنود الاحتلال هويتنا الصحافية. عاد اللبناني الوحيد المنسي خلف الشريط وطلب منا المغادرة فوراً. خروج واكبه إطلاق رصاص حتى أصبحنا في قعر الوادي.
قصة أبو قاسم زهرة، الصامد في مزرعة بسطرة قبل أن ينسحب بعد تحريرها سنة 2001 بترسيم الخط الازرق، كانت نصراً لعسّاف. اكتشاف حرّر قادة البلاد من جمودهم، وأصبح حديثهم الرسمي عن مزارع شبعا «لازمة» في كل خطاب وموقف. وحده عساف أبو رحال بقي يتابع يوميات أبو قاسم على مدى 10 أشهر بعد الإعلان الرسمي عن 25 أيار ذكرى للنصر والتحرير.
رحلة الدخول الى مزرعة بسطرة كانت أجمل لحظات عساف في مواكبة عملية تحرير الجنوب وانتصار المقاومة. مواكبة لم تضع حدوداً للإنسان الطيب. أصبح جزءاً يومياً من تفاصيل المزارع والتلال المحتلة. وثّق في عشرات التحقيقات الصحافية ما كان لبنان الرسمي ــ الطائفي لا يعرفه عن المزارع وأهلها وعن تاريخ مقاومة استشهد من أجل أن تبقى رصاصاتها نحو العدو.
صفحات من ذاكرة صحافي: أنقذنا قلعة الشقيف
لمناسبة عيد المقاومة والتحرير، طلبت «الأخبار» من الزميلين ماهر أبي نادر وضياء شمس شهادتيهما حول الأيام الأولى من التحرير، إذ كان أبي نادر من أول الصحافيين الذين توجهوا إلى المنطقة، في حين كانت شمس موجودة ضمن المنطقة المحتلة قبل أسابيع من تحريرها
ماهر أبي نادر!
قبل أيام قليلة من الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان، في أيار عام 2000، أجريت مقابلة مع العميل أنطوان لحد في منزله في مرجعيون وسألته ماذا سيفعل إذا فاجأه الجيش الاسرائيلي بالانسحاب، فأجابني بثقة ومن دون تردّد «سأحتفظ بالشريط الحدودي من شبعا إلى الناقورة، وعلى أيّ حال لا تصدّقوا الإشاعات، فالجيش الاسرائيلي لن ينسحب». قلت له حينها، بثقة كاملة واستخفاف بثقته بنفسه: «يا جنرال، إذا كان الجيش الاسرائيلي معك بكل قوته ولم تتمكن من صد هجمات المقاومة، ألا ترى أن في ما تقوله مبالغة؟، فكان ردّه «من يعش يرَ».
كانت الأجواء، في الأيام التي تبعت المقابلة، تشير إلى أن الانسحاب الاسرائيلي بات وشيكاً، من دون أن يكون لدى أحد أي معلومات عن تاريخه. حتى أنطوان لحد نفسه كان قد سافر مطمئناً لزيارة عائلته المقيمة في باريس. صبيحة 22 أيار عام 2000، وصلت كالعادة إلى مكتبي في إحدى الوكالات الاجنبية التي كنت أعمل مراسلاً لها. مضى الجزء الأول من النهار وأنا أمارس عملي المعتاد في كتابة بعض الأخبار، قبل أن تبدأ الاتصالات بالتواتر من مراسلي الوكالة في الجنوب، وكلها تفيد أن هناك حركة غير طبيعية للأهالي ولمقاتلي حزب الله على أطراف المنطقة الوسطى والغربية للشريط الحدودي المحتل. اتصلت بمراسلي الوكالة داخل المنطقة المحتلة، فأفادوني بأن هناك تجمعات كبيرة لجنود الاحتلال تأتي من المواقع التي يحتلونها، وأنهم يرجحون أن تكون عملية الانسحاب قد بدأت. لم يكن بالإمكان مغادرة المكتب، إذ كنت وحيداً مع مدير الوكالة الأجنبي حينها. تسارعت رسائل المراسلين، وتسارعت معها المعلومات عن تجمعات لجنود الاحتلال تكبر وتتجه الى فلسطين المحتلة، فيما بدأ بعض عناصر ميليشيات لحد بالهرب من مواقعهم أيضاً.
عند المساء جاءني اتصال هاتفي من أحد مصادر معلوماتي في ميليشيا لحد قرب قلعة الشقيف، أفادني فيه أن الجيش الاسرائيلي يُعدّ لتفجير عتاده الثقيل في القلعة، لأنه لا وقت لديه لسحبه، وأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تدمير القلعة تدميراً كاملاً. أبلغت مدير الوكالة بالأمر، فسارع إلى إبلاغ بعض معارفه في منظمة الأونيسكو، في حين أجريت من جهتي اتصالاً بصديق لي كان ضابطاً في موقع نافذ في استخبارات الجيش (و. س.) وأبلغته الأمر. لم يتوان هذا الصديق عن إبلاغ كل من يعنيه الأمر، وجرت تحرّكات رسمية ودبلوماسية كبيرة أدّت في النهاية إلى منع تفجير القلعة.
ذهبت الى النوم في وقت متأخر، ولكن عند الساعة الثالثة فجراً تقريباً رن هاتفي الخلوي، وفوجئت بصوت الزميلة في صحيفة النهار (هـ. ق.) تقول لي إن حالة هلع شديد تسيطر على أهالي قرى رميش وعين إبل ودبل، وقد توجه المئات منهم إلى الكنائس يقرعون أجراسها تضرّعاً لله كي لا يصيبهم مكروه، فيما توجه آخرون إلى أحد المعابر مع فلسطين المحتلة طلباً للنجاة من «البطش» المنتظر لمقاتلي حزب الله. عند سماعي كلامها، سارعت مجدداً إلى الاتصال بصديقي ضابط الاستخبارات لأستفسر منه عن الأجواء، فطلب مني أن أحادثه بعد ربع ساعة، قال لي بعدها «إن كنت تستطيع التحرّك في هذا الوقت إلى الجنوب، وتمكنت من الوصول إلى أهلنا في قرى رميش وعين إبل ودبل، اعمل جاهداً على إبلاغهم أن أحداً منهم لن يمسّ بسوء، وأن حزب الله لن يقترب من قراهم ومنازلهم، وأن الجيش اللبناني في طريقه إليهم». أنهيت المكالمة ونهضت من فراشي، واتصلت بمدير الوكالة وأخبرته بالتفاصيل، وطلبت منه السماح لي بالتوجه إلى الجنوب فوافق بلا تردد. اتصلت بسائق الوكالة (ح. س.) وطلبت منه أن يأتي إليّ على الفور. وبعد أقلّ من ساعة كنا، السائق وأنا، في سيارته المرسيدس نسابق الريح متجهين إلى الجنوب. أعاقت حواجز الجيش حركتنا بعض الشيء، وعند الساعة السادسة والنصف صباحاً وصلنا إلى دوار «صف الهوا» على أطراف مدينة بنت جبيل. كانت هذه النقطة تشكل حاجزاً كبيراً لجيش الاحتلال وميليشيا لحد، لكن عندما وصلنا إليها كانت قد أصبحت في يد المقاومة. لم يسمح لنا أبو علي، مسؤول الموقع في حزب الله، بأن نواصل سيرنا باتجاه عين إبل، حرصاً على أمننا. ولم تنجح كل محاولاتي لإقناعه. فلجأت إلى خطة أخرى، إذ طلبت من السائق أن يوجّه السيارة باتجاه عين إبل، وأن يبقي محرّكها شغالاً، وأن يبقى في داخلها، وأخذت أتحيّن الفرصة للتملص منه، وها هي قد حانت، إذ ناداه أحد المقاتلين لكي يردّ على الهاتف في الداخل، فأسرع راكضاً نحو المبنى فيما صرخت أنا «شكراً كتير أبو علي»، موحياً لعناصر الحاجز بأن الأخير سمح لي بمواصلة السير.
على جانبي الطريق بين بنت جبيل وعين إبل، كان المشهد سوريالياً بامتياز. شاحنات عسكرية على الطريق محمّلة بأنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر. رشاشات متوسطة وخفيفة وبنادق من مختلف العيارات مرمية في كل مكان. دخلنا عين إبل فكانت أشبه بمدينة أشباح. واصلنا سيرنا باتجاه بلدة رميش، كانت حالة الذعر واضحة للعيان، سيارات بأنواع مختلفة تحمل على عجل العائلات وبعض متاع، فيما الأب أو السائق يصرخ بزوجته وأبنائه أن يسرعوا، والوجهة هي أحد المعابر الحدودية مع فلسطين المحتلة عند أطراف البلدة. أمام هول المشهد، لم نتوقف في البلدة، بل واصلنا السير باتجاه المعبر. إلى هناك، كان الناس يصلون بسياراتهم ويتركونها على بعد حوالى مئة متر ويتابعون سيرهم باتجاه الحاجز الاسرائيلي، وكان يقف بينهم وبين الحاجز عنصر في ميليشيا لحد يضع على كتفيه رتبة نقيب (عرفت لاحقاً أن اسمه س. ش.) وفي يده قنينة ويسكي من نوع «شيفاس ريجال» وقد نقص محتواها حتى النصف تقريباً. كان يترنّح فيما يمرّ الناس عبره من دون أن يعيروه كبير اهتمام على الرغم من أنه كان معروفاً بقسوته وخوف الناس منه. وصلت إلى مقربة منه وأخذت أخبر العائلات الفارّة أني مراسل لوكالة أجنبية، وأن الجيش اللبناني أكد لي أن أحداً لن يمسّهم بسوء، وأن دوريات للجيش في طريقها الى بلدتهم رميش وإلى باقي القرى المجاورة. وبالفعل، تمكنت من إقناع أكثر من خمسين شخصاً بالعودة، فيما كان س. ش. يقول لي «كيف ستنام إذا ما أصاب أحدهم سوءاً بسبب أقوالك».
لم أعره اهتماماً، وواصلت التواصل مع الناس إلى أن جاءني اتصال يفيد بإصابة فريق صحافي في بلدة حولا بنيران جماعة لحد ومقتل أحد أفراده. كان هذا الاتصال كفيلاً بأن يجعلني أعود أدراجي إلى السيارة وأطلب من السائق التوجه بي الى حولا. في طريق العودة رأيت سيارة جيب للجيش اللبناني ترفع العلم في ساحة رميش قرب بركة الماء. وفي الطريق الى حولا كانت الزميلة ضياء شمس (راجع الإطار)، التي سبق لي أن أدخلتها إلى المنطقة المحتلة، تتصل بي لتقول إن الأهالي اقتحموا معتقل الخيام وأخذوا يحرّرون المعتقلين.
وصلنا إلى حولا بعد قرابة ساعة، استقصينا عمّا حصل بدقة وعن أحوال المصابين، فعرفنا أن أحدهم قد فارق الحياة. أجريت اتصالاً بمكتب الوكالة في بيروت لأعطي تقاريري على وجه السرعة. وقبل أن أواصل التحرك، اتصلت بي زوجة مراسل للوكالة في بلدة القليعة، تفيدني بأن مراسلنا وإخوته في حالة خوف شديد، وأنهم يعتزمون المغادرة مع المئات من أهالي البلدة الى فلسطين المحتلة. اتصلت به محاولاً طمأنته، ولكن الخوف كان قد سيطر عليه تماماً. فقلت له إني في طريقي إليه، قادماً من حولا، وإن أي حادث ضد المدنيين لم يسجّل طوال النهار، وطلبت منه أن ينتظرني. وصلت الى بلدة القليعة فوجدت مراسلنا في حالة يرثى له، لكن معنوياته ارتفعت مع رؤيته لي، وتمكنت بجهد بسيط من إقناعه بالعدول عن فكرة المغادرة إلى فلسطين المحتلة. وجاءت حادثة صغيرة لتؤكد له صوابية قراره، إذ وبينما كنا نتحادث في صالون منزله دخلت ابنته الصغرى علينا تصرخ بأن هناك شابين مسلحين على دراجة نارية يريدان أن يأخذا الشاحنة التي يملكها مراسلنا، فأجابها فليأخذوها مش مشكلة. لكني خرجت نحوهما لأكتشف أنهما مجرد لصين ينتحلان صفة رجلي أمن، وعندما طلبت منهما بطاقتيهما العسكريتين أو اسم الضابط المسؤول عنهما أدارا دراجتهما وفرّا مسرعين.
هذا بعض من القصة في يوم التحرير... والبقية في الذاكرة التي لا تستطيع أن تنسى بطولات من صنعوا بدمائهم فجراً عربياً جديداً.
نحبّ المقاومة ونكره اسرائيل
ضياء شمس
لم يعلق في ذهني تفاصيل من تحرير الجنوب في العام 2000 أكثر من تفاصيل تحرير الأسرى من معتقل الخيام، ولم تخالجني مشاعر كتلك التي عشتها صباح 23 أيار 2000، يوم تحرير المعتقل. كنت قد توجهت إلى المنطقة المحتلة لإعداد تحقيقات عن احتياجاتها بعد التحرير الذي قيل إنه سيحصل في حزيران، ثم في تموز. لكن الأحداث تسارعت، وبدأ الانهيار بعد ظهر الأحد 21 أيار، ليبدأ الأهالي بالعودة إلى قراهم في 22 أيار. وفي اليوم الثالث، وفي تمام الساعة الثانية إلا ربعاً، بدأ تحرير معتقل الخيام.
صباد ذلك اليوم كنا قد توجهنا إلى الخيام، بعدما تردّد من معلومات إن العملاء سيفرجون عن المعتقلين عند التاسعة والنصف صباحاً. وصلنا في الموعد، وكان علينا اجتياز طريق قصيرة يشرف عليها برج المراقبة للمعتقل، أطلق عناصره النار علينا بقصد تخويفنا. اجتزنا الطريق بسرعة، ولدى وصولنا الى الباحة، علمنا بأن المفاوضات مع العملاء قد فشلت إذ رفض الأهالي بداية السماح للعملاء بالخروج بسلام مقابل الإفراج عن الأسرى... لكنهم عادوا ووافقوا، لتبدأ سيارات العملاء بالخروج تباعاً عند الواحدة والنصف، بحراسة بعض الأهالي وسخط وشتائم البعض الآخر.
انتظرنا انسحاب آخر سيارة و«هجمنا» على المعتقل... لا نعرف له خريطة، ولا نعرف أين مفاتيح الزنازين التي حتى لو كنا قد وجدناها لم نكن لنحزر أي مفاتيح لأي زنازين. فاستعنا بما وجدناه أمامنا. البعض أمسك بـ«جنط» سيارة وراح يكسر به القفل، والبعض الآخر كسره بواسطة حجر كبير، أما المفاجأة فكانت استعانة أحد الأهالي ببندقية B 7 الحربية راح يضرب القفل بكعبها. كل ذلك يحصل وسط صراخ المعتقلين الذين عرفوا أن ساعة التحرير قد حانت. اعترتنا جميعاً حالة هستيرية، من الصراخ ووالضحك والبكاء... إلى أن خرج المعتقلون.
هاتفي يرنّ. على الخط الزميل ماهر أبي نادر يسألني عن «جدّ المعتقل» سليمان رمضان. لم أكن قد رأيته، فأصّر أن أبحث عنه وأجده. أين أبحث؟ خطر ببالي أن المكان الوحيد الذي سيكون فيه هو مستشفى مرجعيون. توجهت إلى هناك ورحت أبحث عنه. قلت لسيدة خمسينية استقبلتني بثياب ممرضة.. سليمان؟ «لا أعرفه»، أجابت ورحنا نجوب سوية على الغرف التي كان يشغل بعضها عدد من المعتقلين. وكانت الممرضة، خلال طرحي أسئلة عليهم، تجيب وهي تنظر من شباك الغرفة الى الطريق وكأنها تتوقع حصول شيء ما.. «قل لها نحن نحب المقاومة ونكره اسرائيل، ونحن فرحانين جداً بالتحرير».
عندما وجدت سليمان رمضان في إحدى الغرف، كان هو من بادر إلى السؤال: من أنت؟ أخبرته ولطمأنته، اتصلت بالزميل ماهر أبي نادر ليتحدّث اليه. لكن بطارية الهاتف لم تسعفني ليتحدث سليمان إلى إذاعة صوت الشعب، إذاعة حزبه.
حالة هستيرية عمّت المعتقل (ضياء شمس)
تعليقات: