نائبة بشري، ستريدا طوق جعجع
لم يتسن لي أن استمع إلى المقابلة التلفزيونية الأخيرة لنائبة بشري، ستريدا طوق جعجع. غير أن أكثر من صديق موثوق أكد لي أنها تناولتني في كلامها، وأنها ذكرت اسمي من ضمن الذين زاروا زوجها سمير جعجع في معتقله، في سياق ما سمته محاولات من قبل سلطة الوصاية السورية، لإقناعه بتعديل موقفه السياسي. لا تفسير لكلام النائبة المذكورة إلا بأمر من اثنين: إما هفوة في ذاكرتها الزمنية، وإما فجوة في أخلاقها السياسية. والاحتمالان يستحقان التفنيد والتفقيط، للحقيقة وللتاريخ. فإذا كانت المشكلة ثغرة في الذاكرة، فهذا يستوجب تذكير ستريدا بأنني لم ألتق سمير جعجع في زمن الوصاية السورية. بل التقيته بعد جلاء آخر جندي سوري عن الأراضي اللبنانية في 26 نيسان 2005. وبعد أكثر من عشرين يوماً على ذلك. لا بل التقيته تحديداً يوم السبت في 14 أيار 2005، عند تمام الساعة العاشرة صباحاً. وبالتالي ما يجب تذكير ستريدا به، أنني لم ألتق زوجها في سياق الزيارات «السورية» إليه. إنما التقيته في الوقت الذي كان الزمن السوري قد سقط، والحظر الذي فرض على جعجع قد رُفع، وبعدما زاره عدد كبير من أعضاء لقاء قرنة شهوان بالذات. أما الأهم، هو أنني لم ألتق زوجها لأقنعه بما زعمته هي.
بل التقيته بعد أسبوع بالتمام على عودة ميشال عون إلى بيروت في 7 أيار من ذلك العام. وكنت يومها على اتصال شبه يومي به. سألني فور عودته: ماذا يمكن أن نفعل مع «القوات»؟ فكان جوابي الفوري: عليك أن تتحالف معهم، وأن تخوض الانتخابات النيابية جنباً إلى جنب مع سمير جعجع. لأن الاصطفافات المذهبية التي أعقبت الجلاء السوري تفرض عليكما ذلك. بحيث تنبثق من الاستحقاق النيابي المقرر بعد أسابيع قليلة، سلطة لبنانية ميثاقية متوازنة، قادرة على بناء مرحلة السيادة والاستقلال. وافق عون فوراً. لكنه سألني: «كيف يمكن ترجمة ذلك؟». ولأن العلاقة كانت قد انقطعت كلياً بيني وبينك يا ستريدا، قلت لعون: سأصعد إلى سمير جعجع في معتقله، لأطرح عليه الأمر. رحّب عون بالفكرة، على أن يقوم هو بزيارة زوجك في سجن اليرزة من بعدي. أما كيف تم ترتيب الزيارة؟ فقد رتّبها مسؤول قواتي سابق يا ستريدا، تعرفونه جيداً، ويعرفكم حلة ونسباً، ولا يزال هو وكل بيته العريق مؤيداً لبيتكم السياسي الحديث. اسأليه، فأنا أترك له أن يكشف اسمه أو يقول أكثر...
صباح ذلك السبت في 14 أيار 2005 التقيت سمير جعجع يا ستريدا. أعفيك من تفاصيل الشكل والمظهر. بادرته في صلب الموضوع: لسوء الحظ ثمة اصطفافات مذهبية واضحة بعد الانسحاب السوري. وحده موقف مسيحي موحد في الانتخابات المقبلة قادر على موازنتها. فتبدأ حقبة السيادة بمصالحة مسيحية ــــ مسيحية، قادرة على إنتاج تسوية لبنانية ــــ لبنانية، تحصّن الاستقلال المحقق، وتفتح المرحلة على إعادة إنتاج النظام برمّته. وحده اتفاقك مع ميشال عون يؤدي إلى ذلك. أما خلاف ذلك فستكون نتيجته توزعاً مسيحياً على قوتين سنية وشيعية، ما قد يعرّض اللحظة الاستقلالية التاريخية للإجهاض والتضييع.
راح زوجك يناقشني في أي دوائر انتخابية يمكنه خوض المعركة مع عون. قبل أن يسألني متفاجئاً: «إذا كان الجنرال في هذا الوارد، فلماذا لم يفاتحنا به من قبل؟ فأنا الآن التزمت في موقفي. ثم لبث مستذكراً بضع ثوان، قبل أن يتابع قائلاً لي: أنا التزمت منذ زارني وليد جنبلاط في بيتي ــــ ويقصد بيتك السياسي في يسوع الملك ــــ لماذا لم يطرح الجنرال الموضوع علينا قبل ذلك التاريخ. أنا الآن ملتزم بالخط الطويل العريض الذي يمتد على مستوى كل المنطقة...».
أجبته ببساطة: «جنبلاط زار زوجتك قبل عيد الميلاد بأيام قليلة. أي في العشرينات من كانون الأول 2004. أما ميشال عون فمنذ 22 تشرين الثاني من العام نفسه، أي قبل شهر من التزامك مع جنبلاط وفريقه، أوفد إليك ألان عون، ثم جبران باسيل، لمفاتحتك بالموضوع»... فوجئ زوجك بردّي، ما جعله يستدرك بالقول: «في كل حال، لقد تأخرنا الآن. فليخض كل منا الانتخابات لوحده. ثم بعدها نلتقي في المجلس وننسق». لكنك صرت جزءاً من فريق، وصارت التزاماتكم أعمق من أي قدرة لكم على نسج وحدة موقف، ما يحول دون إقفال صفحة أحقاد العام 1990 وحروبها التدميرية... ثم لا يمكننا الرهان على أي موقف خارجي. قبل ثلاثة أيام التقينا إلى طاولة الغداء مع جفري فلتمان، لدى الشيخ الرصين الوقور، ميشال الخوري. كنا مجموعة من أعضاء «القرنة». بادر الدكتور فارس سعيد وأنا إلى مفاتحة فلتمان بموضوعك. لم يرد إلا هازئاً. وأضيف الآن، أنه لم يتناولك يا ستريدا إلا بما هو أسوأ من الهزء...
كان هذا آخر الكلام مع زوجك. خرجت من مقابلته فوراً إلى الرابية. لم أحبِط نية عون في متابعة مسعاه الوحدوي. بل شجّعته. قلت له ان فكرة التحالف دونها صعوبات، لكنها تظل ممكنة. تابع الجنرال. يوم الأربعاء في 18 ايار كان في اليرزة. ظهراً التقيته مستفسراً. ابتسم متأثراً: «مستحيل!». قالها بأسى. لتُستأنف بعدها حروب الحقد والتدمير الذاتي، من حيث توقفت في 13 تشرين الأول 1990، كأن فاصلة لم تتغير طيلة عقد ونصف...
في هذا الوقت التقيت سمير جعجع يا ستريدا، وفي هذا السياق بالذات. وبهذا الهدف القديم المزمن الثابت، الذي سعيت إليه منذ انطلاق أول رصاصة جنون في حرب الأخوة في 31 كانون الثاني 1990. وبهذه الخلفية التي التزمت بها، وأصررت على محاولة تجسيدها، أنا ومجموعة من المناضلين الرافضين للحرب والعنف. حتى كتبنا إلى زوجك بالتفصيل وثيقة عنّايا الشهيرة. لا تزال نسختها الأصلية لدي. وبخطي طبعاً. ماذا حل بها؟ إسألي إيلي كيروز، أو توفيق هندي أو الأب توما مهنا ...
هذا ما حصل في اللقاء اليتيم مع زوجك في زنزانته يا ستريدا. من يؤكد ذلك؟ ها أنا شاهد عليه. وزوجك كذلك. لا أحسبه يحمّل ضميره أكثر. ثم بالتأكيد أن اللقاء مسجل بالصوت والصورة لدى الجهات المسؤولة عن سجن اليرزة يومها. ولا شك أن «ماري» يمكنها الحصول على نسخة منه. تذكرين «ماري» يا ستريدا، وتثقين به قطعاً في هذه المسائل، ثقة عمياء. وإلا لما كان اليوم في هذا الموقع. إسأليه. لديه حتماً كل التسجيلات...
يبقى الاحتمال الثاني، أن يكون كلامك يا ستريدا مؤشراً لا إلى ثغرة في الذاكرة، بل إلى فجوة في الأخلاق. بحيث ترمين من خلفه إلى التضليل على المحاولات الحقيقية للمتاجرة مع سلطة الوصاية السورية في ذلك الزمن. عن أي محاولات أتحدث؟ مشكلة حين يعرف المرء كل شيء، حتى ما يعتقده الآخرون مخفياً أو سراً محكماً. لن أقول أكثر يا ستريدا، إلا إذا رددت بما يقطع في السبب بين الذاكرة والأخلاق، من نوع الشتم أو السب أو الكلام الرخيص.
في النهاية أنا أسكت يا ستريدا، رحمة بدماء شهداء سقطوا يوماً، من أجل وهم قضية، لا فروة. أنا أتحفظ يا ستريدا، احتراماً لآلام ستة آلاف معتقل، ولعذابات كل المناضلين من أجل ثورة، لا ثروة. أما حين أُدفع لأن أنتفض لكرامتي وللحق، فعندها قد أجدني مضطراً لأن أثبت بالوقائع والحقائق، أنه يمكنك أن تكذبي على كل الناس بعض الوقت، أو يمكنك أن تكذبي على بعض الناس كل الوقت. لكن حتماً لا يمكنك أن تكذبي على كل الناس كل الوقت.
تعليقات: