نجاح الوكالة اليهودية أو وزارة الاستيعاب في الحكومة الإسرائيلية دوماً في استقدام آلاف المهاجرين اليهود الجدد، القادمين من أماكن عديدة م
لا يكاد يمر يومٌ دون أن تنقل إلينا وسائل الإعلام أحد خبرين، أو كلاهما معاً، وهما خبران سيئان محزنان، يثيران في النفس وجوماً، وفي القلب إضطراباً، ويعكران صفو الحياة، ويقلقان على المستقبل، ويهددان مصير أجيالنا ومستقبل أولادنا، ومآل أرضنا وعاقبة أمرنا.
وهما يساهمان في تحديد خاتمة المعركة، ويلعبان دوراً في رسم خارطة المنطقة، ومنهما نشعر بالخطر، ونتنبأ بواقعنا بعد سنوات، وحالنا الذي سيكون، وهوية الأرض التي عليها نتصارع، وبسببها نتقاتل.
ومنهما ندرك حجم التآمر علينا، والخيانة لنا، والاتجار بنا، واستغلال حاجاتنا، وابتزازنا والضغط والتأثير علينا، بانتهازيةٍ مريضة، وسياسةٍ خبيثة، ومخططاتٍ قديمةٍ جديدة، تخدم عدونا، وتضر بنا، وتقضي على أمالنا وتحقق للعدو أهدافه، وتوصله إلى غاياته، وهو تآمرٌ داخلي وخارجي، من الأصدقاء والأعداء، ومن أصحاب الحق ومن مغتصبي الأرض، فلا تبرئة لأبناء الوطن من الجريمة، ولا إعفاء لهم من المسؤولية، ولا إلقاء باللائمة على العدو ومن حالفه فقط.
وهما فعلان قديمان يتجددان، كانا في الماضي وما زالا إلى اليوم، وسيبقيان إلى الغد ما بقي حالنا، وتواصلت انتكاساتنا، وبقدر ما هما خبران محزنان للعرب، فإنهما يفرحان الإسرائيليين، ويسعدان كثيرٍ من اليهود ومن والاهم وساندهم، فهو بالنسبة لهم حلمُ وأمل، وهي أمنية يعيشون لأجلها ويموتون في سبيلها، ويتمنون تحقيقها.
أما الخبر المحزن الأول فهو نجاح الوكالة اليهودية أو وزارة الاستيعاب في الحكومة الإسرائيلية دوماً في استقدام آلاف المهاجرين اليهود الجدد، القادمين من أماكن عديدة من العالم، ليستوطنوا في أرضنا فلسطين، ويحلوا مكان أهلنا، ويسكنوا في بيوتنا، ويستولوا على خيرات بلادنا.
في الوقت الذي تقوم فيه الحكومات الإسرائيلية في سبيل استيعابهم، بمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وبناء مستوطناتٍ جديدة على حساب المدن والبلدات الفلسطينية، أو توسيع القائم منها ليستوعب الوافدين الجدد، ويساعدها في جريمتها دولٌ ومنظمات، يقدمون لها العون والمساعدة، ويساهمون في تثبيت المهاجرين، ومنحهم مساعدات ومعوناتٍ تشجعهم على البقاء، وتغري غيرهم باستعجال الهجرة والقدوم.
وتطالب العرب والفلسطينيين بالقبول بهذا الواقع، والتسليم بهذه الظروف، وعدم الطلب من الحكومات الغربية ومن الولايات المتحدة الأمريكية الضغط على حكومة الكيان الصهيوني لتتوقف عن استقدام المزيد من المهاجرين، أو تجيمد بناء المزيد من المستوطنات.
أما الخبر المحزن الثاني فله صورٌ شتى، وأشكالٌ عديدة، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو الهروب والفرار، والرحيل والمغادرة، إذ تغادر أوطنَنَا العربية، الغنية والفقيرة، النفطية والزراعية، الشرقية والغربية، الملكية والجمهورية، الأجيالُ الشابة، والطاقاتُ العلمية، وأصحابُ الكفاءات الحرفية والمهنية، والناجحون والفاشلون، والأغنياء والفقراء، وسكان المدن والقرى والمخيمات، وكثيرٌ غيرهم ممن يعمرون الأرض، ويصبغونها بأصالتها العربية والإسلامية.
لكن الفقر والقهر، والجوع والحرمان، والبطالة والتشرد، وفقدان السكن اللائق، وصعوبة شروط التعليم والرعاية الصحية، وانعدام الخدمات الاجتماعية، فضلاً عن الحصار والتشديد والتجويع، والتضييق الأمني والملاحقة البوليسية، والتحايل الانتخابي والخداع الديمقراطي، وزيف الحريات وكذب الحقوق، والاستئثار والاستحواذ والتحكم والهيمنة والسيطرة، إلى جانب الإقصاء والحرمان والتهميش والإهمال، كل هذا وغيره يدفع بالمواطن العربي إلى الهجرة والرحيل، والمغادرة والغياب، فلا يلوي على وطنٍ أحبه، ولا يبكى على مسكنٍ آواه، ولا بيتٍ فيه نشأ وتربى، فما يقرص بطنه، ويوجع قلبه، ويوهي عظمه، ويقتل مستقبله، أكثر بكثيرٍ من مشاعرٍ تربطه، وعواطفٍ تجذبه، وأحلامٍ تراوده.
ويزيد في حجم الحزن والألم في الخبر الموجع الثاني، الإهاناتُ التي يتعرض لها الراغبون في الهجرة على أبواب السفارات، أو في مكاتب السفر والهجرة، حيث يطردونهم ويمنعونهم، و"يتمقطعون" بهم، ففي الوقت الذي تقوم فيه الوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب الإسرائيلية وغيرهما من الجهات المختصة، بتقديم الخدمات والإغراءات لكل مهاجرٍ يهودي، فإن السفارات المقصودة تفرض على الراغبين في الحصول على تأشيرة السفر رسوماً باهضة، وضماناتٍ مالية كبيرة، وتعهداتٍ وكفالات ينوء عن القيام بها الكثيرون، ويعجز عن توفيرها الأثرياء والقادرون.
فيضطرون للجوء إلى السماسرة، وتجار التهريب، وخبراء الهجرة واللجوء، وهم شركاتٌ كبيرة، وعصاباتٌ متشعبة وممتدة، أشبه بالشركات العملاقة متعددة الجنسيات، يعملون في كل مكان، ولهم أعوانٌ ورجال في كل الدول، في المطارات وعلى الحدود والمعابر، وفي أقسام الشرطة ومراكز الهجرة، يقبضون مقدماً عن كل شخصٍ كبيراً أو صغيراً، ويشحنونه كالبضاعة من دولةٍ إلى أخرى، حتى يستقر به الحال في الدولة التي يريد.
لكن الحزن يكون أكبر ويصبح فاجعة عندما ترد الأخبار عن غرق مراكب المهربين، وموت أو فقدان من كانوا على ظهرها، وهي حوادث باتت تقع يومياً، قرب الشواطئ الإيطالية، أو قريباً من اليونان، وأخرى على السواحل الأسبانية، وبعيداً في المياه الإقليمية الأسترالية، حيث يموت غرقاً مئاتُ المهاجرين، الباحثين عن الفرج، والساعين إلى الأمل.
والمنكوبون هم رجالٌ ونساءُ وأطفالٌ وشيوخ، وغالباً يكونون في حالةِ ضعفٍ وإعياءٍ شديدين، بعد أيامٍ من الإبحار المضني، فإما تجنح بهم القوارب فتلقي بمن على ظهرها فيموتون غرقاً، أو يجبرهم الربان قريباً من الشواطئ على القفز منها، ولما كان كثيرٌ منهم لا يحسن السباحة، فضلاً عن وجود صغارٍ وشيوخ، فإن أغلبهم يلقى حتفه، ويموت أمام أنظار خفر سواحل العديد من البلدان.
الحدثان محزنان، وهما مفجعان مؤلمان، وكلاهما خطر، ولكن إن كنا لا نقوى على منع الأول وصده، أو تحديه ومنعه، رغم كل المحاولات والمساعي، إذ لا تلقَ شكوانا من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية آذاناً صاغية، ولا تعيرها حكومات الاحتلال أي اهتمام، بل لا تأبه بها ولا تهتم، ولا تتوقف خوفاً منها أو جزعاً، ولا تجمدها حرصاً أو أملاً.
فإننا نستطيع أن نواجه الثاني ونقلل من أخطاره، ونخفف حدة أحزانه، فهذه أوطاننا، وهي بلادنا، وهؤلاء هم أبناء شعبنا، فلا نكسر ظهورهم، ولا نوهن عزائمهم، ولا نجعل الدنيا سوداء في عيونهم، ولا نضيق عليهم العيش، ولا نسد في وجوههم طاقات الأمل، ولا نحرمهم من الحرية والكرامة، ولا نمعن تجاههم في الإهانة والإساءة، ولا ندفعهم للبحث عن أي فرصةٍ للفرار والهرب، بل نمد لهم يد العون المساعدة، لتبقى بلادنا جاذبة، وأوطاننا حاضنة، وقلوبنا دافئة، ووجوهنا لبعضنا باشة، وصدورنا واسعة، وعقولنا حليمة، ولتسعهم رحمتنا، ولتشملهم رعايتنا، فهم عدتنا وسلاح مستقبلنا، فلا نفرط فيهم ولا نتخلى لغيرنا عنهم.
تعليقات: