زيارة بوش المفاجئة: العراق بين «نموذجين» لبنانيين

معن بشور
معن بشور


لم يكن ممكنا ـ على الاقل إعلامياً ـ صرف النظر عن الانسحاب العسكري البريطاني من البصرة، وقد رأى فيه غالبية البريطانيين «هزيمة»، الا بالحضور المفاجئ للرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ووزيرة خارجيته ووزير دفاعه ومستشاره للامن القومي الى العراق وحلوله في قاعدة عسكرية «بالانبار» مهد انطلاق المقاومة المسلحة وفي حركة «علاقات عامة» من الدرجة الاولى يقوم بها الرئيس المحاصر بالرأي العام في بلاده، كما بالكونغرس وهيئة الاركان المشتركة ناهيك بالفضائح الاخلاقية والمالية والسياسية التي تنبت كالفطر في جنبات ادارته والمقربين اليه.

وعلى الرغم من ان بوش تجنب الهبوط في «المنطقة الخضراء» التي كانت تعتبر حصن القيادات العسكرية الاميركية والعملية السياسية العراقية التي باتت في مرمى نيران المقاومة وقذائفها واختراقاتها الامنية، الا ان السيارتين المفخختين اللتين انفجرتا على مقربة من قاعدة «عين الاسد» حيث «المقر الموقت» لبوش واركان ادارته وابرز حلفائه من العراقيين كانتا كافيتين كي يفهم الرئيس «العنيد» رسالة الشعب العراقي المصمم على تحرير وطنه من الاحتلال ومن كل مفاعيله وافرازاته وابرزها من دون شك مشروع تقسيم العراق بعد ان تم انجاز مشروع تدمير واحدة من اقوى الدول في المنطقة.

ولقد اختلف المراقبون، بمن فيهم الاميركيون بالذات، حول هدف الزيارة التي سبقت بايام الموعد المنتظر لتقريري قائد القوات الاميركية ديفيد باتريوس، والسفير الاميركي ريان كروكر، وللكونغرس حول مدى النجاح الذي حققته الاستراتجية الجديدة ـ القديمة لجورج بوش كآخر ورقة يلعبها قبل الاذعان لتوصيات لجنة هاملتون ـ بيكر ولرغبة العديد من اعضاء الكونغرس، ديموقراطيين وجمهوريين، وعشية انتخابات رئاسية تشير كل الاستطلاعات الى نجاح «بوش الابن» الباهر في قيادة حزبه الى هزيمة غير مسبوقة.

البعض رأى في الزيارة مسعى من بوش واركان ادارته الى مشاركة باتريوس وكروكر في وضع اللمسات الاخيرة لتقريرهما وتنقيته من اي استنتاجات قد يستخدمها خصومه الاشداء في الكونغرس للنيل من سياسة الادارة الحالية، علماً بأن كل التحليلات تؤكد ان التقريرين لن يخرجا عن سقف رغبات بوش نفسه، خصوصاً ان باتريوس بالذات ليس بعيدا عن سهام التحقيق بفضائح اختفاء اكثر من مئتي ألف قطعة سلاح اميركية ومليارات الدولارات ارسلت لتزويد الجيش والشرطة العراقيين بها، وقد كان باتريوس مشرفاً على تدريبها، وكانت مساعدته الاقرب مشرفة على توزيع السلاح والمال.

واذ يرى البعض ان وراء اختفاء هذه الكمية الضخمة من السلاح والمال صفقة فساد كبرى شارك فيها عسكريون اميركيون وساسة عراقيون، فإن البعض الآخر يرى ان هذه الاسلحة والاموال ذهبت لاعداد جيش سري مرتبط مباشرة بالقيادة الاميركية ويتجاوز عدده المئة الف جندي ويكلف بمهام خاصة من اغتيالات وتفجيرات وعمليات خطف متبادلة حتى ان العراقيين اسموا هذا الجيش ـ الذي كشف اسراره قبل اشهر محمد حسنين هيكل- «جيش الفتنة» غير النظامي وغير الاميركي، العامل جنباً الى جنب مع جيش الاحتلال الاميركي والنظامي المنتشر في كل انحاء العراق.

اما الاحتمال الآخر الذي يرجحه بعض المحللين فهو ان للزيارة علاقة بالضغط على قيادات العملية السياسية العراقية من اجل الاسراع بانجاز مصالحة وطنية شكلية، واقرار قانون النفط الذي بدأ «مجلس نواب المنطقة الخضراء» بمناقشته هذه الايام مع انتهاء عطلته الصيفية، وذلك كي يستطيع الرئيس الاميركي ان يقدم للكونغرس الاميركي نماذج عن نجاح سياسته واستراتيجيته في العراق خصوصاً مع الادعاء أن هذين «الانجازين» يرافقهما تقدم امني مبني على احصاءات تم التلاعب بها لتعطي نتائج معاكسة لما يجري على ارض الواقع تحت شعار: اكبر كمية من القتل بحق العراقيين واكبر كمية من الكذب على الاميركيين.

يبقى احتمال ثالث لا يتناقض مع الاحتمالين السابقين بل قد يتكامل معهما، وهو ان بوش واركان ادارته الذين يدقون طبول الحرب ضد ايران في عملية يقال انها ستكون «مفاجئة، وشاملة ومدمرة» وغير مسبوقة في التاريخ الحديث ، قد يلجأون الى خيار «الانسحاب المفاجئ» للتفرغ للعملية العسكرية المرتقبة، ولمنع ايران من استخدام القوات الاميركية في العراق كرهائن، وهي في واقعها شبيهة بحالة «البط العائم» في بحيرة محاطة بصيادين مهرة.

هذا الانسحاب المفاجئ قد لا يكون وحده كافياً اذا لم يكن مقروناً باعداد «مسرح واسع» لحرب اهلية عراقية لا تغرق العراقيين وحدهم في اتونها بل تغرق دولاً اقليمية متعددة وابرزها ايران وتطلق في المنطقة كلها تداعيات ذات طابع عنصري او مذهبي تطوق القيادة الايرانية بشعور معاد من كل الجهات.

النصيحة في هذا المجال هي اسرائيلية، (وقد اقرت جهات اسرائيلية بوجود صهاينة في العراق يعملون في اطار شركات اسلحة)، والنموذج المقترح هو «نموذج لبناني» يعود الى مثل هذه الايام من عام ,1983 حين قاد الانسحاب الصهيوني المفاجئ من الجبل الى واحد من اكثر فصول الحرب اللبنانية دموية وقسوة وتهجيراً ما زالت آثاره مستمرة حتى اللحظة الاخيرة، ويومها لم يهتم الاسرائيليون كثيراً بمصير فئات راهنت عليهم وسهلت وصولهم الى العاصمة، بل مارست تل ابيب سياستها المعروفة «نحن نستخدم الجميع، ولا نسمح لاحد بأن يستخدمنا».

وكي يبدو الدور الاميركي «نظيفاَ» في «المحرقة الدموية العراقية» المرتقبة، ومؤشراتها ليست خافية على احد، فإنها تريد ان تحمل «اركان العملية السياسية الحالية» المسؤولية المباشرة عن تلك المحرقة، فهم لا ينفذون الاوامر بوقف مفاعيل «اجتثاث البعث» و«بإشراك السنة في الحكم» وغيرهما من مطالب ومطالب لم يكن ممكناً اصلاً اثارتها لولا السياسة الاميركية نفسها التي دخلت دباباتها ارض العراق وهي تحمل علناً مشروع تقسيم العراق و«اثارة النعرات العرقية والطائفية والمذهبية» ، وتقرن احتلال العراق بحل جيشه وتدمير دولته وعزل الملايين من ابنائه بحجة الانتماء الى حزب عريق في جذوره، واسع في انتشاره، عابر في بنيته الداخلية للاعراق والطوائف والمذاهب، هو حزب البعث.

من هنا يأتي اجتماع بوش واركان ادارته بالطالباني والهاشمي الذي كان حزبه الاسلامي ينظم اعتصامات للافراج عن عشرات آلاف العراقيين المعتقلين في السجون الاميركية والعراقية فيما كان هو يهرول على عجل الى قاعدة القادسية ليجتمع بالرئيس بوش، وبحضور المالكي رئيس الحكومة الفاقدة «للتمثيل السني» الذي كان محصوراً «بجبهة التوافق» وعمودها الفقري الحزب الاسلامي.

ويطلق البعض تعليقاً ساخراً على جملة رددها بوش في زيارته المفاجئة للعراق «ان تخفيض عدد قوات بلاده في العراق مرهون بما يتحقق من تقدم امني» معقول بالقول انه إذا كان التقدم الامني المقصود هو نجاح قوات الاحتلال في بسط سيطرتها وسياستها على العراق فهذا بعيد جداً، اما اذا كان المقصود بالتقدم الأمني، وهذا هو الارجح بنظر بوش، هو تقدم الاجهزة الامنية الاميركية والبريطانية والاسرائيلية والعميلة في تنفيذ مخططاتها القائمة على اغراق العراق بالدم وقتل مئات الالاف من ابنائه، وتشريد الملايين داخله وخارجه، فان هذا التقدم يحصل بالفعل وبالتالي فان بوش يستطيع سحب قواته باسرع وقت ممكن.

لكن بين العراقيين اصواتا كثيرة تقول نعم سنعتمد النموذج اللبناني، لكن النموذج الذي برز بعد الانسحاب الصهيوني من الشريط الحدودي اللبناني المحتل في ايار ,2000 حيث سقطت كل الرهانات على فتنة اهلية دامية وعلى ان المقاومة التي حررت الارض ستغرق في ممارسات وتجاوزات واعتداءات تحول التحرير لانتكاسة، والنصر على العدو لهزيمة في الداخل وهي رهانات ما زالت قائمة حتى الساعة.

ويعزو هؤلاء العراقيون تفاؤلهم الى ان الفتنة الدائرة اليوم في العراق (وهي بالمناسبة لم تعد طائفية او مذهبية فقط بل انتقلت الى داخل الطائفة الواحدة والمذهب الواحد كما شهدنا في النجف، وقبلها في بعقوبة والانبار)، هي من صنع اميركي ـ بريطاني ـ صهيوني، وان منفذيها من العراقيين هم ادوات للاحتلال سيخرجون معه ان لم يكن قبله، بل يعطي هؤلاء امثلة عديدة تشي بوجود رابط قوي يشد مكونات المجتمع العراقي الى بعضها البعض، بعضها موضوعي مثلما نشهد في الشمال الكردي من ضغوط تركية وايرانية لا سبيل لمواجهتها الا من خلال الوطنية العراقية الجامعة، والدولة العراقية الموحدة، كما ان بعض الروابط يتصل بطبيعة المجتمع العراقي وامتدادته العشائرية من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، ناهيك بوعي عراقي متنام، تعززه التجارب والمشاهد الدموية، بان الطريق الى الحرب الاهلية هي اقصر الطرق للاجهاز على ما تبقى من العراق والعراقيين.

النموذج اللبناني الآخر، نموذج ما بعد ايار ,2000 هو ما يتطلع اليه العراقيون، ويسعى القادة المخلصون بينهم الى تحقيقه سواء عبر توسيع افق الحوارات الدائرة عليها داخل العراق وخارجه، او عبر قيام جبهة وطنية وقومية واسلامية عراقية شاملة لكل القوى المناهضة للاحتلال، جبهة تتطلع الى مستقبل العراق اكثر من الغرق في ماضيه ومآسيه وانقساماته ومحنه، وتدرك ان العراق اما ان يكون عراقاً موحداً ديموقراطياِ عربياً مستقلاً واما ان يبقى فريسة اللاأمن واللااستقرار.

في جميع الاحوال، فزيارة بوش واركان ادارته هي تعبير عن عمق المأزق لا خطوة على طريق تجاوزه، ونقل مركز القرار الاميركي من البيت الابيض الى عين الاسد، او من واشنطن... الى الانبار، لن يغير من اتجاه الاحداث او يمنع نتائجها المحتومة.

ان الحرب الاميركية على العراق التي اعلن جورج بوش نهايتها في 1/5/2003 من على حاملة طائرات اميركية، قد فشلت فشلاً مدوياً ولن يغيّر من صورة فشلها صور جورج بوش متقرباً من الجنود والعسكريين ومتنقلاً بينهم، وهو لا يدري من منهم سيبقى على قيد الحياة غداً او بعد غد.

وبالمقابل، فإن الحرب التي بدأها العراقيون على قوات الاحتلال من ام قصر في اقصى الجنوب الى كل نواحي العراق، ولتستعر مقاومة وانتفاضات بعد 9/4/2003 (يوم احتلال بغداد) هي في طريقها الى النصر مهما كبرت التضحيات.

تعليقات: