المقاومة ليلى سرحان
لم تكن العملية النوعية الجريئة التي نفذتها المناضلة الشيوعية سهى بشارة مساء 7/11/1988 بحق العميل أنطوان لحد، فاتحة المشاركة النسائية في عمليات «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد العدو الإسرائيلي وعملائه، فقد سبقتها وتلتها عمليات اتسمت بالجرأة والبطولة، تعاقبت عليها ثلة من المناضلات في «الحزب الشيوعي اللبناني» و«الحزب السوري القومي الاجتماعي».
«كان اعتمادنا على المناضلات في المقاومة، لا يقل أهمية عن دور الشباب، بل إن بعض الرفيقات قمن بما لم يتمكن الشباب من تحقيقه، في عملية نقل الأوامر العسكرية والحزبية، بين المناطق المحتلة والمحررة، فضلاً عن نقل السلاح والذخائر وغيرها»، يقول مسؤول «الشيوعي» في النبطية د. علي الحاج علي.
أكثر من خمسين سيدة وشابة من بلدة كفررمان وحدها، «انخرطن في عمليات الرصد، ونقل السلاح، وتركيب العبوات، وتفجيرها، إلى جانب نقل المعلومات. ودورهن في ذلك يضاف إلى دور معظم نساء البلدة، في الدعم وتأمين الخدمات الميدانية للمقاومين، من طعام ومبيت وتسهيل حركة عبورهم وانتقالهم، قبل العملية وبعدها، ثم تأمين سبل السلامة لعودتهم إلى حيث انطلقوا» يقول أحد قدامى المقاومين في كفررمان.
كانت ليلى سرحان في السابعة عشرة من عمرها، يوم وضعت خطواتها الأولى في درب المقاومة. عاشت ليلى في بيت شيوعي بامتياز، «كل من فيه شارك في جانب من جوانب عمل المقاومة، خصوصاً في ظل الاحتلال المباشر الذي عانت منه مدينة النبطية بعد العام 1982، وصرت أشعر بأنني هامشية ولا جدوى لحياتي إن لم ألجأ إلى الانخراط المباشر في أي عمل ضد الاحتلال. حاول المناضل الراحل سليمان جابر قميحة، وهو رفيق شقيقي عبد الكريم، اختباري؛ فطلب إلي نقل رسالة إلى بيروت، ثم العودة بالجواب، ولم أتردد لحظة، بل راودني شعور غريب بالفخر وبأن حياتي صارت ذات معنى».
ربما لأن ليلى فتاة «وثمة قناعة شائعة بأن المقاومة للرجال والقبضايات.. لذلك لم ألفت انتباه أحد». تضيف ليلى: سلمان قميحة عزيز جداً على قلبي وضحكته وابتسامته لا تفارقان مخيلتي ما حييت. سألني ذات مرة: ليلى هل باستطاعتك الذهاب إلى بيروت؟ قلت في نفسي، أتت فرصتي، فوافقت من دون تردد مع علمي بوجوب تجاوز حاجز (جسر) الأولي عند الجهة الشمالية لمدينة صيدا، وخضوعي للتفتيش. قال: ستحملين رسالة. كانت تكنولوجيا الاتصالات غير متوافرة كما اليوم، وكانت الرسالة تشبه «عملية» عسكرية بحد ذاتها. وصلت الرسالة إلى بيروت وحملت الردّ، وتجاوزت الحواجز كلها، خاصة في باتر وجزين والأولى. ولأنني كنت صغيرة ومراهقة، كان يسمح لي بالعبور من دون اي تفتيش».
عندما أصبح شباب المقاومة بحاجة إلى سلاح لم يكن متوفرا لهم في النبطية، وخاصة الصواعق والقنابل والعبوات «طلبوا مني أن اساعدهم. هذا الأمر كان يحتاج إلى مثابرة ومجهود كبيرين بسبب عيون العملاء المفتوحة. صرنا وقتها نلتقي في دكان جابر قميحة في الوسط التجاري للنبطية. كنت أدخل إليه وسط زحمة المشترين، وكان الرجل يرحب بي ويقول: انتظري يا ابنتي هناك عند مكتبي، ويترك لي الجارور مفتوحا، إما لأضـــع فيـــه شـــيئا أو لآخذ مــنه شــيئا» تقول ليلى.
بعد سنة، أي في العام 1983، خضعت ليلى لدورة تدريبية في بيروت، «حتى اليوم لا تزال رائحة الصدأ عالقة في أنفي. تدربت على استخدام رشاش الكلاشينكوف، وعلى تجهيز صاروخ وعدت بعدها إلى النبطية. لم تكن هناك سيارات نقل متوافرة بعد عام من الاحتلال. صار لي شركاء أعرفهم بالإشارات وليس بالأسماء، حتى إن اعتقل أحدنا لا يعترف عن الآخر. من منطقة شرق جزين، كان علينا نقل الصواريخ بين الأودية والتلال والحقول الوعرة، طوال ليلة كاملة لا ننام خلالها، من هناك إلى منطقة النبطية، ولم نكن نركن حتى إلى سيجارة ننفث دخانها، لكي لا ننكشف أمام العدو، وكان عودي طرياً، لكنني مصممة على الاستمرار. كانت حمولتنا تتألف من صاروخين وكيس صواعق ومتفجرات، شريكي الشاب أرادني أن أحمل الكيس ويحمل هو الصاروخين، لكنني رفضت».
«لم آت لألعب، بل لأكون مقاومة بما للكلمة من معنى، ونفذت ذلك أكثر من مرة بنجاح ونقلنا الصواريخ إلى كفررمان. كانت كفررمان في هذا الوقت ضيعة المقاومة، بنسائها قبل رجالها، وأنا أحترم نساءها جداً. إنني لا أنسى ذلك الشاب الذي جاء بيتنا ذات ليلة وصرت أنقل معه الصواريخ والسلاح، كان هذا الشاب هو الشهيد جعفر ياسين (الذي سقط في العام 1985، في عملية ضد موقع «علي الطاهر» المطل على كفرتبنيت). معه شاركت في عملية نقل صواريخ وقمت أنا بتجهيزها قبل الانطلاق نحو موقع العدو في الدبشة».
بعض رفاق الدرب والمقاومة استشهدوا، البعض الآخر تابع الطريق، لكن ليلى لا تريد اليوم الاضاءة الا على الجوانب الإنسانية لهؤلاء الشباب، «أرغب في الحديث عن جوانب حياتهم الخاصة، كيف كانوا يحبون ويقاومون بتفان، ثم كيف سقطوا من دون أن يتسنى لهم وداع حبيباتهم».
انسحب العدو الإسرائيلي من منطقة النبطية في العام 1985، وتمركز على التلال المشرفة عليها وعلى منطقتها «لكن الحرية التي كنا مستعدين للاستشهاد من أجلها صودرت ووجدنا أنفسنا عرضة للابعاد والملاحقات وصرنا بدلا من التفكير في كيفية مقاومة العدو، نفكر كيف نحمي رؤوسنا من أخوتنا في الوطن والمواطنة، وسقط من سقط جراء التنكيل والملاحقة، وهجر من هجر، وعندما تسنت لنا العودة من جديد، كان الحزب قد صار أكثر من حزب، وتفرق العشاق رفاق المقاومة والسلاح، وتبدلت الأولويات والتحالفات».
لا تنسى ليلى ليلة 29/12/1979، «كنت في الثانية عشرة، كانت ليلة قاسية على النبطية والجوار، صار والدي يحكي لنا القصص كي ننسى ولا نتنبه للقصف والخوف، وعندما أطل الصباح، كان والدي من غير رأس وشقيقتي الصغيرة تحاول إيقاظه، وأنا أحاول التحقق من ان ما أراه هو دم أو غيره. وكانت والدتي تصرخ: لقد انقطع فخذي. تحسست أمي ووجدت الاصابة في فخذها وبطنها. والدي دفن في يوم استشهاده، نقلوه في سيارة «بيك أب» إلى المقبرة، وأمي نقلت إلى المستشفى واستشهدت هناك. أما نحن فقد تبدلت كل حياتنا، وما كان يرويه لنا والدي من حكايات عن مقاومة الفقر والظلم، صار لها طعم آخر. تهجرنا إلى بيروت، جيراننا تبدلوا، لكن الخبز الذي كانت تعجنه أمي لم يعد موجوداً.. صارت المقاومة خبزنا انا وأخوتي».
تعليقات: