فؤاد السنيورة وسعد الحريري يمثلان مدرستين مختلفتين في الأداء السياسي
يكفي تشريح بنية فؤاد السنيورة المهنية، كي يُبنى على أدائه، مقتضاه. المصرفي العتيق الذي يعدّ «قروشه» بيديه، عندما يصل إلى السياسة، يحسبها على الورقة والقلم. الفاصلة والنقطة. يتصلّب في موقفه زيادة عن اللزوم، وحين يبلغ حافة الهاوية، يقدّم التنازلات، ويبدد «تشدده» في بحر التسويات الكبيرة.
عناده ليس من باب المبدئية كما يرى منتقدوه، بدليل انتقاده «صقور» فريقه النيابي، وإنّما على طريقة تكريس نفسه بمثابة معبر إلزامي لا يجوز إهماله أو القفز من فوقه، بدليل أنّه في كل مرة يتسلّح بالتشدد، سرعان ما يتراجع إلى الوراء لكن بعد تكبيد فريقه ثمناً سياسياً ما.
وفق هذه المعادلة، تصرّف السنيورة مع خيار التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي، حين اختار «المواجهة» العلنية مع سعد الحريري في رفضه للتمديد، إلى أن اتخذ القرار النهائي، فما كان من رئيس الكتلة النيابية الزرقاء إلا الوقوف في «صف التمديد». قبلها راح يسير جنب إلى جنب في مقاربة الأزمة السورية بينما بلغ رفاقه جسر الشغور ودرعا وداريا... ولما عاد هؤلاء من الحج السوري، كان هو في طريقه إليه.
وعملاً بـ«توصيات» هذه التركيبة الكيميائية، يعاند اليوم الصيداوي الرياح الحوارية بكل ما أوتي من قوة، مع أنّ «الأصيل» المقيم بين باريس وجدة، فتح يديه لمبادرة الرئيس نبيه بري، وإن بشكل محدود، تاركاً للكوة الصغيرة أن تأخذ مداها في جدار الأزمة السياسية الداخلية المستعصية.
ومرة جديدة، اختار «الوكيل» السباحة عكس التيار، على مرأى من الخصوم قبل الحلفاء، لكأنه أراد أن يُحرج «زعيمه» فيحمله مسؤولية تعطيل المسعى الحواري. وبطريقة تخلو تماماً من المواربة، وصف السنيورة خريطة الطريق المعروضة أمامه، بأنها «مضيعة وقت»، بينما لم تكن قد مضت ساعات قليلة على الموافقة المبدئية التي سجلها سعد الحريري من باريس على الأفكار التي أرسلها إليه نبيه بري بالبريد السياسي السريع.
لا يحسب السنيورة حساباً لفاتورته السياسية المتراكمة عند «الشيخ المغترب»، حتى أنه لا يكترث للقيل والقال الذي سيجرّه هذا «الشرخ العلني» وراءه. المهمّ تسجيل موقف اعتراضي، على قاعدة «خالف تُعرف»... وللحريري أن يكتشف لاحقاً من هو على حق... ومن يملك معطيات الأرض والسياسة... والواقع.
هناك من يعتقد أنّ لهذه الثنائية في «تيار المستقبل» شكلها ومضمونها. فؤاد السنيورة وسعد الحريري يمثلان مدرستين مختلفتين في الأداء السياسي. الأول، عنيد جداً، لا يلين بسهولة بعكس الثاني. يعتقد السنيورة أنه يملك خبرة وتجربة طويلة في «الكار السياسي اللبناني». يملك دراية في طبائع السياسيين ومكائدهم، تمكنه من أن يكون الأدرى والأعلم والأعرف... والوحيد الذي لديه الجرأة لقول «لا» عالية لوريث رفيق الحريري.
لا ينفي ذلك أن السنيورة مراوغ بامتياز. يُشعر الجالس معه، بأنّ صدره رحب ويفيض بالقدرة على استيعاب الأفكار الأخرى. لكنه في نهاية المطاف لا يتصرف إلا وفق قناعاته... من دون اغفال دفتر حساباته الكبيرة.
بمقدور الرجل الثاني في «تيار المستقبل» أن يستفيض في الكلام مع محاوره، فيروح ويجيء، من دون أن يأخذ الجالس قبالته، لا الحق ولا الباطل. ساعات قد لا تكون كافية لأخذ المراد من الأكثر قدرة بين جماعته على اللف والدوران والتبحر في متاهات لغة الضاد. يميل إلى التصرف على طريقة «القاشوش». يريد أن يضع يده على كل شيء. أن يعرف كل شاردة وواردة. أن يتابع كل تفصيل، مهما كان صغيرا أو كبيرا. يمضي أكثر من 12 ساعة عمل يوميا.
أما سعد الحريري الرجل الأول، في «التيار الأزرق»، فصاحب خبرة متواضعة. أصلا حلّ الشاب على البلد بـ«الباراشوت» في العام 2005، بعدما كان والده قد كلفه على مدى سنوات بالمهمة الأصعب في «سعودي أوجيه» مع بعض اخوته الأصغر منه سنا، فتواصل مع الأمراء السعوديين من جيله واكتسب هناك شيئا من خبرة الصحراء وجفاف العلاقات.
يقول عنه بعض محيطه «انه صادق وواضح وشفاف إلى حدّ «البراءة» والسذاجة. وإن ما يريده يرميه فوراً في وجهك. غير قادر على المناورة. نفسه قصير. له عالمه الخاص المحصور ببعض الشخصيات وبعض الاهتمامات (مثل السيجار والطبخ). في هذه الأيام يضع كل تركيزه على الشأن السوري، أما الوضع اللبناني، فلا يعنيه الا بعناوينه العريضة، لا أكثر... تاركاً زواريبه لمن يحبّ «الزوربة» من «اهل الكار» المقيمين في بيروت!».
في المقابل، «دولة السنيورة» الشاعر، المحب للطرب، حريص على جمع «قبضاياته» الزرق وصقورهم كما حمائمهم، كل أسبوع، ليخرجوا ببيان، لا يعبر بالضرورة عن وجهة «زعيم الزرق»، بل وجهة قائد الأوركسترا النيابية.
أما سعد الحريري، فيتجنّب التواصل المباشر مع نواب «المستقبل»، ليستعين بمعبرهم الإلزامي، رئيس الكتلة. حتى أنه لم يحاول اختراق أسوار الكتلة لزرع نواة تتناغم مع تغريداته. يتكل على دائرته الضيقة لتجميع «الداتا»: باسم السبع، غطاس خوري، نادر الحريري، هاني حمود.. ومحمد شطح الذي يبقى قريباً من السنيورة، لكنه يجاهر بولائه لسعد الحريري أولاً.. وأخيراً.
عندما تصير «الدولة الزرقاء» برأسين، كثير من الجنود والضباط فيها يصبح جلّ همهم حماية قبعاتهم. وحده أحمد فتفت يتبرّع مدافعا عن «الممانعة السنيورية» للحوار. في حين أنّ المخضرم نهاد المشنوق، كان أقرب إلى النهج الانفتاحي لكن من ضمن شروط محددة. فريد مكاري فتح ذراعيه أيضا للحوار ولمشاركة «حزب الله» في الحكومة. أما البقية، التي تخشى أن تطير المظلة السياسية من فوق نمرتها الزرقاء، ففضلت أن تغيب عن السمع، إلى حين انتهاء الكباش العابر للحدود بين أهل البيت الواحد.
أمّا العلّة فمكمنها معروف. إنّه غياب سعد الذي ترك فراغا كبيرا، راح معه حضور فؤاد السنيورة يتسع الى حد ممارسة الحق الشخصي والسياسي بالاستثمار، متسلحا بوجود مناخ دفين عند جزء من الطبقة السياسية يعطي أرجحية الكفاءة والادارة لفؤاد السنيورة، وهو المناخ الذي لا تمانع دوائر ديبلوماسية غربية وخليجية في التعبير عنه علنا في بعض الأحيان، حتى أن بعضها لم يتردد في بعض الأحيان في مصارحة نجيب ميقاتي بأنها معجبة بادارته واسلوبه مقارنة بسلفه سعد الحريري.. لولا أنه أتى الى السرايا على حصان الانقلاب الشهير في مطلع العام 2011.
يقود ذلك الى الاستنتاج أن السنيورة لم ولن يخلع بذلة رئاسة الحكومة، لا بل يكاد يكون متأكداً من أنّه الأوْلى بها، ويتصرف على هذا الأساس. يحاول الرجل إقناع من حوله بأنّه دائماً «على حق»، حتى لو فصل «الشيخ» الخيط الأبيض عن الأسود، فبمقدور الرجل الصيداوي أن يقفز فوق كل الحبال، لينقذ وجهة نظره من الغرق.
يسري الحذر على الحلفاء. لا تزال علاقة السنيورة بسمير جعجع مشوبة باللاثقة، أقله هكذا يعتقد الرجل المعرابي، الذي يفضّل بلا شك أن يمسك السماعة ليناقش سعد الحريري عبر الهاتف، من أن يلتقي السنيورة الى مائدة واحدة. فالشرخ الذي أحدثه اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» لم يهضمه رئيس الكتلة النيابية الزرقاء، برغم محاولة الحريري الايحاء بأن الموضوع صار خلفه، علما بأن من زار الرياض في الأشهر الأخيرة، شعر بوجود «نقزة» من الضعف «القواتي» البنيوي ازاء ميشال عون.. وخير دليل «المشروع الأرثوذكسي».
مع أمين الجميل الحسابات مختلفة. يفضل رئيس «الكتائب» التعامل دائما مع الأصيل ولو أنه يهمله لمصلحة قائد «القوات». «الزئبقية الكتائبية» تجعل «الكيمياء» صعبة مع «الأصيل» و«الوكيل»... أما مع «قوى 8 آذار» والنائب وليد جنبلاط، فالحسابات مختلفة.
باعتقاد راصدي حركته، يحاول السنيورة الفوز باعتراف مكونات «البازل» اللبناني بأنّه وريث رفيق الحريري، ولو أن الأخير كان، على حد تعبير مقربين جدا منه، قد قرر قبيل استشهاده، احالة «صديقه» فؤاد على التقاعد السياسي، باعادته الى ادارة «بنك المتوسط».
لا أحد يبدو مستعدا للتعامل مع السنيورة بوصفه «الرقم الأول» ما دام سعد الحريري لا يزال يحظى بالبركة الملكية السعودية التي تبقيه متقدّماً على الآخرين ليس لشخصه بل لأنه وريث رفيق الحريري.
قد تكون صيدا سبباً إضافياً لـ«الفورة السنيورية». هناك تقف بهية الحريري في المرصاد. الساحة لها والكلمة لها والشعبية لها. حتى في مسقط رأسه لم يتمكن الرجل من بناء حيثية جماهيرية تسند ظهره. نائب «بالاسم» عن دائرة «الحريريين».
ومع ذلك، يقول بعض أهل «البيت الأزرق» انّ سعد الحريري باله طويل. مطلع على كل هذ التفاصيل، ويدرك جيداً مدى سلبية هذه «الثنائية» على واقع «تيار المستقبل»، ولا يحرّك ساكناً. بمقدوره في أي لحظة استدعاء «الوكيل» والطلب منه السير تحت جناحيه. لكنه يتركه على سجيته، لأنّ غيابه عن الواجهة اللبنانية هو سبب «النشاز» في الخطاب «الأزرق». ومتى يعود إلى بيروت، سيستقيم الوضع تلقائياً.
تعليقات: