الخيار الأكثر ترجيحاً رفع دعوى جديدة ضد القوات اللبنانية لتقصيرها في تقديم الأدلة (مروان بوحيدر)
بعد ٣١ عاماً على خطف ميليشيا القوات اللبنانية محيي الدين حشيشو، برأت محكمة جنايات صيدا، أمس، ثلاثة متهمين لعدم كفاية الأدلة، لتفتح صفحة جديدة في رحلة بحث عائلات المفقودين عن العدالة المطمورة في المقابر الجماعية
«براءة» ... كان بإمكان القاضية رلى جدايل أن تعلن خلاصة حكم في قضية خطف محيي الدين حشيشو تحت قوس العدالة في محكمة جنايات صيدا، لكنها فضلت أن يسلّم باليد عبر قلم المحكمة.
«سيسلّم القرار عبر القلم كما جرت العادة»، تقول القاضية جدايل لـ«الأخبار». يستحق الحكم بجريمة الخطف الوحيدة خلال حقبة الحرب الأهلية التي سلكت طريقها الى القضاء، أن ينطق به في قاعة المحكمة. لكن تلاوة الحكم كانت ستضع هيئة محكمة الجنايات في مواجهة غير ودودة مع عدد من أهالي المخطوفين الذين جلسوا في القاعة الى جانب نجاة النقوزي، زوجة محيي الدين حشيشو، التي حضرت خصيصاً من الولايات المتحدة الأميركية، لسماع الحكم الذي انتظرته ٣١ عاماً!
الى جانب نجاة، جلست رفيقات الدرب: وداد حلواني ومريم قصير وسوسن الهرباوي وغيرهن من زوجات وأمهات وشقيقات عدد من المخطوفين. في المقابل، جلست زوجات المتهمين الثلاثة بالخطف: فؤاد شاكر ونصر محفوظ وسعيد قزحيا، الذين أدخلوا السجن الاثنين الماضي بعد انتهاء جلسة المرافعة الأخيرة، قبل أن يخلى سبيلهم أمس من نظارة قصر العدل في صيدا، بعدما أُعلنت براءتهم من التهم المنسوبة إليهم «لعدم كفاية الدليل بحقهم وإلا للشكّ». الحكم الذي صدم الأهالي لا يحمل سوى إيجابية وحيدة تتعلق بتثبيته الاجتهاد الذي يقول بعدم شمول قانون العفو جرائم الخطف كونها متمادية ولا تسقط بمرور الزمن أو بالتقادم.
وتبيّن لمحكمة الجنايات، المؤلفة من الرئيسة الأولى رلى جدايل والمستشارين الياس الحاج عساف وهدى الحاج، أنه أُحيل أمام هذه المحكمة المتهمون الثلاثة: فؤاد الياس شاكر، ونصر طانيوس محفوظ وسعيد وديع قزحيّا، وذلك كي يحاكموا بجناية المادة /569/ عقوبات لعلّةِ اشتراكهم بتاريخ 15/9/1982 في خطف المواطن اللبناني محيي الدين حشيشو، وتبيّن أن زوجة المخطوف، نجاة محمد النقوزي، قد اتخذت صفة الادعاء الشخصي بحق المتهمين الثلاثة، وتبيّن، بنتيجة المحاكمة العلنية، أنه على أثر اغتيال رئيس الجمهورية السابق بشير الجميل بتاريخ 14/9/1982 انتشرت حالة من البلبلة والغضب، وفي عبرا استيقظ الأهالي في اليوم التالي على أصوات طائرات مروحية إسرائيلية وأصوات لمكبرات صوت تناشد الأهالي ملازمة بيوتهم وعدم التجول.
وبحسب وقائع الحكم، «استيقظ الشاهد فادي سليم داغر على هذه الأصوات، فخرج الى حديقة منزله لاستطلاع الأمر، ورأى من هناك المتهم نصر محفوظ (...) وفي هذه الأثناء، مرت قربهما سيارات من بينها سيارة عسكرية تحمل علم القوات اللبنانية، وتجاوزتهما قليلاً حتى بلغت الجامعة اليسوعية، فالتفّت السيارات هناك وعادت نحوهما وتوقفت بالقرب منهما، وسأل أحد الموجودين فيها عن منزل محيي الدين حشيشو، فتولى الشاهد إرشادهم الى ذلك المنزل ولكن بشكل غير واضح وغير دقيق، ثم دخل على الفور الى منزله ولم يعرف ماذا فعل المتهم محفوظ. بعد ذلك، توجهت المجموعة المسلحة إلى منزل حشيشو الذي كان في حينه مسؤولاً في الحزب الشيوعي، وعمدت الى اقتياده بالقوة من منزله. وقد أفاد المتهم نصر محفوظ بأنه أثناء التحقيق معه خضع بتاريخ 14/9/1982 لامتحانات في الجامعة اليسوعية في عبرا، وأنه كان من المفترض استكمال الامتحانات في اليوم التالي، وأنه كان بتاريخ 15/9/1982 في طريقه لاستطلاع مصير تلك الامتحانات بعد حادث الاغتيال، فوجد الجامعة مقفلة».
وقد حددت المدعية أسماء المتهمين باعتبارهم من عداد المجموعة الخاطفة بناءً على معلومات أدلى بها الشهود، ولا سيما منهم سليم داغر، والد الشاهد فادي داغر، وباسم صافي وداني صافي، وهما من جيران حشيشو، لكن الشاهد سليم داغر توفي قبل بدء التحقيق الابتدائي، فتعذر الاستماع الى إفادته بسبب وفاته، فيما نفى الشاهد داني صافي أمام المحكمة معرفته بالمخطوف وبالمتهمين، كما نفى انتسابه وشقيقه إلى القوات اللبنانية في حينه، ونفى كذلك تزويده المدعية بأسماء أشخاص شاركوا في عملية الخطف.
أما الشاهد باسم صافي، فقد أعطى في التحقيق الأولي إفادة ضمن المحضر رقم 904/302 نفى فيها أن يكون قد تعرّف على المسلحين الذين أقدموا على خطف حشيشو، كما نفى أن يكون وشقيقه داني قد زود المدعية زوجة المخطوف بأسماء الخاطفين.
كما أدلى الشاهد طارق حشيشو من جهته في التحقيق الأولي بإفادة أكد فيها أنه شاهد أثناء احتجازه في ثكنة كفرفالوس، التي كانت تابعة في حينه للقوات اللبنانية، شخصاً معصوب العينين ومكبل اليدين يشبه الى حد بعيد محيي الدين حشيشو، مضيفاً إنه لا يعرف أياً من الأشخاص الذين أقدموا على خطفه أو على خطف حشيشو، وكرر أقواله هذه لدى استماعه أمام المحكمة.
وقد ترافع وكيل المدعية المحامي نزار صاغية، طالباً تجريم المتهمين بجرم الخطف وإلزامهم بتعويض رمزي قدره ليرة لبنانية واحدة، فيما كرر ممثل النيابة العامة مآل الادّعاء وطلب تطبيق مواد الاتهام بحق المتهمين الثلاثة، ثم ترافع وكيل كل من المتهمين وطلب البراءة لموكله، أما المتهمون فقد طلبوا البراءة في كلامهم الأخير أمام المحكمة. يستدل من إفادات الشهود التي أوردها الحكم أن هؤلاء أنكروا ما أدلوا به أمام المدعية لأسباب غير معلومة، كالشاهدين باسم وداني صافي. أما في حال الشاهد فادي داغر، فيتبيّن أن شهادته جاءت ضعيفة وغير مفصلة وخصوصاً لجهة إثبات مدى ضلوع المتهم محفوظ في عملية الخطف. وفي غياب نظام لحماية الشهود في أصول المحاكمات اللبنانية، ستبقى قضايا جرائم الحرب بعيدة عن الوصول الى قرائن دامغة ومؤكدة، ولا سيما الجرائم التي ارتكبتها ميليشيات أتاح لها قانون العفو أن تكون شريكة في السلطة الجديدة.
وبحسب خلاصة القرار، تبيّن للمحكمة «أن إفادة الشاهد داغر لا تكفي لبيان مشاركة المتهم محفوظ في المجموعة المسلحة، ولا سيما أن المتهم لم يكن في عداد تلك المجموعة عند حضورها للسؤال عن منزل حشيشو، ولم يتبيّن انضمامه إليها بعد دخول الشاهد داغر الى منزله».
لكن الخلاصة غير المنطقية التي توصل إليها القضاة «أن استغراب الجهة المدّعية من وجود المتهم محفوظ بعيداً عن قريته، غداة اغتيال الجميل، للسؤال عن مصير الامتحانات في مقر جامعته في عبرا رغم حظر التجول المفروض هناك، لا يشكل دليلاً كافياً على أن المتهم المذكور كان في عداد مجموعة الخاطفين، ولا سيما أنه كان بالفعل في الشارع المؤدي الى الجامعة، ولم يتبيّن ما يثبت التقيد التام بحظر التجول في حينه مع استمرار المروحيات الإسرائيلية بالدعوة إليه». وهذا يعني أن محفوظ ورغم سماعه المتكرر لأمر حظر التجول، قرر القدوم الى جامعته في لبعا، وأن وجوده هناك بالتزامن مع عملية الخطف كان مجرد صدفة، وأن عدم تعرفه على أي من الخاطفين أمر طبيعي!
هل تنسحب تبرئة المتهمين الثلاثة لتشمل الجهة الخاطفة أي القوات اللبنانية؟ «قطعاً لا»، تجيب حشيشو التي تدرس مع موكلها الخيارات المتاحة بعد صدور القرار، وأبرزها تمييز الحكم. ولعل الخيار الأكثر ترجيحاً أن ترفع دعوى جديدة ضد القوات اللبنانية لضلوعها بعملية الخطف، بل لتقصيرها في تقديم الأدلة التي تساعد على كشف مصير حشيشو، وإنهاء معاناة واحدة من أصل ١٧ ألف عائلة مفقود. ومن المقرر أن تعقد لجنة أهالي المفقودين مؤتمراً صحافياً ظهر يوم الجمعة المقبل في مسرح دوار الشمس في الطيونة للتعليق على الحكم.
:
:
ليست هي المرة الأولى التي يبرّأ فيها المتّهمون
آمال خليل
كان المتجمعون أمام قصر العدل في صيدا بانتظار صدور الحكم في قضية خطف محيي الدين حشيشو، أقل من واحد وثلاثين، أي عدد السنوات التي مرت على اختطافه من منزله في عبرا على أيدي عناصر من القوات اللبنانية في مثل هذا الشهر. التوقيت الذي يكون فيه الناشطون والناشطات في أعمالهم أو جامعاتهم ومدارسهم، أثّر على نسبة تلبية دعوة المنظمات الشبابية اليسارية إلى الاعتصام أمام القصر، بالتزامن مع موعد النطق بالحكم. ظنّ الجيش والقوى الأمنية أن المعتصمين آتون لتنفيذ جرم أكثر قذارة من جريمة إخفاء حشيشو. فانتشر العناصر في محيط الاعتصام وتأهبوا بسلاحهم وآلياتهم على المداخل المؤدية إلى القصر، المقفل في الأساس بالعوائق الاسمنتية والحديدية.
ضاعت أجساد المعتصمين داخل الطوق الأمني، لكن صور حشيشو اخترقته. طال الانتظار تحت حر الشمس الذي أصبح أثقل بعد قرار الرئيسة الأولى القاضية رولا جدايل منع الدخول حتى إلى حرم قصر العدل لغير المعنيين مباشرة بالقضية من أهل وموكلين، لأسباب أمنية.
انتظار نجاة النقوزي، زوجة حشيشو، طال داخل قاعة الجلسات وهي تترقب نطق جدايل بحكم العدالة. بين الحين والآخر، خرجت نجاة لتحية المتضامنين معها، برفقة مريم السعيدي والدة المفقود في الفترة ذاتها ماهر قصير وسوسن شقيقة المفقود أحمد الهرباوي. نظرت في وجوههم بحسرة، فيما انهالت دموعها، وناشدتهم أن يغادروا خوفاً عليهم من أشعة الشمس ولـ«خبرتها بالنطرة الطويلة». خطر لها أن تسألهم عن أعمارهم لتكتشف أن معظمهم ولدوا بعد الخامس عشر من أيلول عام 1982. أخبرتهم أن كلاً من أولادها الأربعة شعر بثقل السنوات الـ 31. فإذا أحصينا عمر معاناتنا، فإنها فاقت 150 عاماً. الأرقام عالية في ذهن نجاة، عدد الحزن والوحدة والجلسات التي حضرتها حتى النهاية. أرقام عالية بخلاف من سار معها في صيدا على درب الجلجلة.
إلى جانبها أمس، كان مسؤول الحزب الديموقراطي الشعبي في صيدا غسان عبدو، والمسؤول في الحزب الشيوعي اللبناني فياض النميري، وصلاح السكافي ممثلاً التنظيم الشعبي الناصري. في هذا الوقت، صودف خروج رئيس جمعية تجار صيدا، الكادر في تيار المستقبل، علي الشريف من قصر العدل حيث كان يقوم بمراجعة خاصة به. مر بسيارته بين المتجمّعين قبل أن يقرر لاحقاً الترجل والتوجه إليهم. قال «وأنا أيضاً أريد أن أقف معكم». وقفة لم تدم ثواني حتى عاد إلى سيارته. حينها استوقفته نجاة لتعاتبه على عدم مساهمة تيار المستقبل في دعم قضيتها. أخذ الشريف يبرر لها ويؤكد تضامن تياره مع قضيتها.
الحزب الديموقراطي الشعبي سارع الى إدانة حكم جدايل بتبرئة المتهمين بخطف حشيشو، واعتبره ضربة قاضية للعدالة المرتجاة وطعنة في صدر الحقيقة. وقال إن القضاء اللبناني الذي أطلق سراح العملاء المدانين بالعمالة، ليس غريباً عليه أن يبرّئ خاطفي كبار المناضلين الوطنيين.
هكذا، وجّه رفاق حشيشو جام غضبهم على جدايل. لكن، هل كانت هذه القاضية هي أول من عفا عن خاطفي حشيشو؟ قبل 31 عاماً، خُطف المناضل من أمام منزله، واتهمت القوات اللبنانية بارتكاب هذه الجريمة. إلا أن فاعليات صيداوية عدّة لم تنتظر حتى حكم القضاء، بل بادرت في السنوات الماضية الى فتح الباب واسعاً أمام حضور القوات اللبنانية السياسي في المدينة ومنطقتها، بما فيها قرى شرقي صيدا التي تُتهم القوات اللبنانية بأنها السبب وراء تهجير أهلها في شباط عام 1985. قبل عام ونصف، عادت القوات إلى عبرا من بوابة أحمد الأسير، جمعته معها لقاءات ودية وتنسيقية. وقبل مدّة، تم الكشف عن اجتماعات دورية تعقد بين كوادر في القوات ومنسقية تيار المستقبل في صيدا والجنوب، وصار نائبا صيدا بهية الحريري وفؤاد السنيورة يوزّعان أخبار استقبالهما على قياديين قوّاتيين في مجدليون.
أهل محيي الدين حشيشو ورفاقه لا يريدون من المحكمة إلا العدالة، أن تعلن هوية المجرم ومصير المخطوف. لا يريدون أن تنتصر وجهة النظر الأخرى، تلك التي سبق للنائبة الحريري أن عبّرت عنها، عندما عبّرت عن استيائها من «إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وفتح صفحات الحرب البغيضة ... فالماضي عبرة نتّعظ منها وليس شماعة نعود إليها لنكء الجراح كلما دعت الحاجة» ... العدالة ليست شمّاعة، والحقيقة ليست سكيناً، هذا ما أراد المعتصمون قوله أمس.
تعليقات: