إنّ الحديث عن اللغة العربية لذو شجون، ليس لأننا ننتمي إلى هذه اللغة العريقة في الأصالة والتمكّن، ولا لأننا نتحدث بها ونعبّر بواسطتها، أو نكتب بها, ولا لأنها اللغة الرسمية لبلادنا وشعبنا، ولا لأنها لغة أمّة بأكملها منذ مئات السنين، ولكن لما يحاصر هذه اللغة الصامدة عبر العصور من أزمات تلو الأزمات؛ من استدمار يسعى بكل الوسائل والإمكانات لطمس اللغة العربية ونسخ آثارها، والاجتهاد في مقابل ذلك على ترسيخ لغته اعتقادا منه بأن هذا الفعل سيمدد بقاءه في البلاد المحتلة، وسيطيل سيطرته عليها، ومن تنكّر بعض أهلها, إذ يرون فيها عجزا وضعفا وقصورا عن مواكبة التطور, وغير صالحة للسير في ركب التقدم والازدهار.
إذا كان الحطّ من مستوانا، والنيل من معتقداتنا، ورمي لغتنا العربية بالعقم والضعف والقصور واتهامها بعدم مواكبتها مستجدات العصر... صفات ينعتنا بها غير الناطقين باللغة العربية منذ عهد عهيد، فهو أمر ليس غريبا علينا، ولا على أيّ عاقل، لأن هذا الأمر قديم، ولا يحمل ما يثير الغرابة والدهشة، ولكن الذي يستثير الحافظة ويوقظ الإحساس بالأسف, أن يكون الذي ينعتنا بذلك, واحد من إخواننا أو أقاربنا أو زملائنا، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يزيد تعقيدا ولا ينبئ بخير وسيكون هذا الشيء عرقلة في سبيل تطوير اللغة العربية وإخراجها وأهلها من غيابات تلك التهم الباطلة.
أمام هذه الحقيقة المؤلمة أردت أن أسهم بما تيسر, في إزالة بعض الغموض الذي يعتري كثيرا من الاشخاص، وأضع يدي على مواطن القوة الكامنة في اللغة العربية، والتي يغفل عنها كثير من الناس في المعمورة. لقد حملت اللغة العربية في طياتها حضارات عريقة في التاريخ البشري منذ آلاف السنين، ولا نغض الطرف عن أنها اللغة الوحيدة المنفردة التي هي لسان القرآن الكريم. فالحديث عن راهن اللغة العربية، يوحي لدى البعض أن هذه اللغة صارت عاجزة عن التعبير عن مستجدات العصر، وأضحت قاصرة على منافسة اللغات العالمية الأخرى التي يروّجون لها، وغير ذلك من الأقاويل التي نسمعها متناثرة هنا وهناك.. إنّ الأمر أبعد من ذلك، إذ لو دقق الناظر في أحوال لغات الأمم الكثيرة والمختلفة لوجد اللغة العربية تتصف بما لم تتصف به غيرها من اللغات؛ تمتاز بالثبات والاستقرار، لذلك عندما نتحدث عن اللغة العربية في هذا المجال يتراءى لنا أنّ هذه اللغة المتميزة لم تخضع للتغير والتحول الذي أثّر في اللغات الأجنبية الأخرى. فمن الواضح أن استقرار الكلمات العربية من حيث الجانب الصوتي والدلالي منذ قرون كثيرة, ليوحي بتلك اللحمة بين جيل اليوم والأجيال الغابرة، وهذا أمر يزيد من عظمة اللغة العربية وما من لغة في العالم إلا مسّها التغيير، فحدثت تلك الفجوة بين أجيالهم، وصار من الصعب عليهم التواصل مع بعضهم البعض، مثلما حدث في انكلترا، إذ أنّ هذا الأمر دفع علماء اللغة الإنكليزية إلى إعادة صياغة النّصوص الأدبيّة المهمّة مثل نصوص (شكسبير) من اللغة الإنكليزية القديمة التي صارت ذات كلمات معقدة وصعبة الفهم، إلى لغة إنكليزية حديثة . فالذي دفع أولئك إلى هذا العمل إيمانهم بعجز الجيل الجديد عن فهم نصوص كاتبهم الشهير الذي ينتمي إلى الجيل الماضي. بينما لو أقبلنا على الفرد العربي المعاصر وعرضنا عليه منتوجات أدبية و فكرية قديمة فإنه بالتأكيد لا يشعر بالصعوبة والاستغراب.
ومن بعد هذا تبقى اللغة العربية صالحة لمواجهة التحديات، ولها القدرة على التصدي لحل المشكلات التي استعصت على كثير من اللغات فوق المعمورة، ولكن مع ذلك لا بد من دعوة أهلها للنهوض بها وعدم الاستهانة بها لأن هذه اللغة العربية هي التي تصلح لنا وهي القادرة على التعبير عن أحوالنا، وظروفنا .. فلابد من المحافظة عليها واستعادة هيبتها.
إذاً تعرضت اللغة العربية، ومازالت تتعرض، لمحاولات لتشويهها وإضعافها، وهي تعاني اليوم من مشكلة كبيرة فيسهل القول أن العولمة تعد أخطر تحدي تواجهه اللغة العربية، فالعولمة ترمي في مضمونها إلى تشكيل العالم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفق المنظومة الأمريكية، وتضع الخطط والبرامج لتحقيق هذا الهدف، بدءاً من غزو العراق والسيطرة والتدخل في العديد من الأنظمة العربية، وقد شق مشروع العولمة الثقافية طريقه إلى التنفيذ من خلال التدخل في المناهج التربوية والتعليمية، حيث باتت أغلب الجامعات و مؤسسات التعليم العالي في العديد من الدول العربية تدرس باللغة الانكليزية كلغة أساسية بدل اللغة العربية.فيسعى هذا الغزو الثقافي إلى قلب المفاهيم وتشويه الحقائق بما يخدم مشروع الهيمنة، فالاستشهادي يصبح انتحاري، و المناضل يصبح إرهابي، المقاوم هو المخرب، والخانع الذليل هو المعتدل.. للأسف هذه المصطلحات تتغلغل في لغتنا العربية وخاصة في لغة الإعلام والإعلان مما يرسخها في الأذهان، وخاصة أذهان الأجيال المقبلة.
ختاماً إنّ مشكلة اللغة العربية في الوطن العربي من أولى المشكلات والمسائل التي تتطلب حزما وعزما، فهي تتعدى المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكل المشكلات باتت هيّنة إذا كانت اللغة العربية هي أمها، إنّها الأساس الذي تنبني عليه الأمم والحضارات وتتوطد به الدعائم والأركان . فالمحافظة على اللغة العربية أمر واجب، فهي لغتنا التي تحمل تراثنا، ومقوماتنا، فلا ننتظر أبدا أن يحافظ عليها غير الناطقين بها، فهم ليسوا عربا, ولا تربطهم بهذه اللغة صلة. لكن مدح اللغة العربية والثناء عليها، والإعجاب بها، والإشادة بها، وغير ذلك مما له علاقة بالمشاعر والأحاسيس، لا نظن أنّ ذلك سيصلح من شأنها وشأننا، وإنما ينفع ذلك بمعيّة وضع مخطط لغوي عربي سليم، يركّز على تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم كلها.
..
* طارق حديفة - أمين سر منتدى الشباب الديمقراطي
تعليقات: