تحدو عجوز من “الخيام” مستظلة شمس شباط، للأيام الخوالي. وتحلف حين تستدرجها نحو صيف الذكريات او شتائها، برأس “طبيب الفقراء” وملهم الشفاء، الشهيد شكر الله كرم. تالله بعد كل هذا التصدي والتحدي، لا يمكنك ان تنتزع من قلوب أبناء الخيام وإبل السقي ومرجعيون وكل القرى المترامية تحت إبط جبل الشيخ المعمم ببياضه هذه الأيام، هذا الشهيد بكل ما عناه ويعنيه لأهله من لمسات حنان وعلاج رمزا نضاليا يحتذى.
تؤكد الرواية بصدق لا يزعزعه مشكك، انه، لم يخذل الصمود والتحدي الطبيب الطالع من عمر الفلاحين قيد أنملة، ولم يحط التهديد والوعيد المتراكمان من رجس المستعمر ثم العدو وعملائه الحالمين بعبث الجنوب وتشتيت أهله وتفتيتهم، من عزيمته مرة. وظل هكذا، مناكفا النزوح عن التربة التي لم يعشق غيرها، حتى لفظ أنفاسه شهيدا قابضا على سلاحه الأوحد ضد المرض والجهل، وضد المغتصب، متمسكا بسماعته الطبية التي خرت معه صوب الأرض تحت وابل رصاص العدو الذي أتى ليغتاله في ذاك اليوم المشؤوم والمشهود، ويغتال الأرض، الخميس في السابع عشر من شباط العام 1977، توطئة لعدوانه التدميري الشامل بحق الخيام. فيذبح هذا العدو بعد نحو سنة من رحيله المفجع، عَجَزتها الثمانين أحباب الطبيب الشهيد.
بدأ شكر الله كرم المبصر للنور في عام شرارة الحرب العالمية الأولى 1914، او قبلها بسنتين، معاركه المتعددة قبل شروق شمس الحرب الثانية، مقاوما للأجنبي المنتدب للوطن بعد رحيل العثماني، مدافعا عن الإنسان كقيمة وصاحب حق ومنشد حرية، بذهن متوثب وإرادة وقّادة وهاجس في التحرر لم يلن او يهن. فراح يزرع الأرض تصديا لأمراض المساكين والمناضلين، مقاوما للجهل والفقر والتخلف، يجوب حنايا قراها وجبالها في همة لا تضاهيها عزيمة او إرادة.
والطبيب المتفتح على أصول الطب والجراحة لم تغره العاصمة بمفاتنها وتنوعها، فآثر بعد تخرجه في العام 1933 من الجامعة الأميركية العودة الى صفوف الفلاحين والمناضلين في سبيل لقمة العيش في الخيام والجوار، ثم امتدادا نحو معظم قرى قضاءي مرجعيون وحاصبيا، ليبلسم جراحهم وأوجاعهم. متنقلا بين بيوتهم وضياعهم، مرة على صهوة جواد، وأخرى سيرا نحوهم، ويكتفي في مجمل المرات بكلمة “شكرا”. ويقول: “مسكين إنسان هذي الحدود الجنوبية كم يحمل من شقاء”.
وها ان الحرب العالمية الثانية تحط أوزارها، فينتفض هذا الشاب العروبي لقضية شعبه وأمته، ولم يطل الأمر حتى أطلت نكبة فلسطين، وكانت الخيام نموذجا للقرية الجنوبية المواجهة للعدو وهي تئن تحت نير الحرمان والإهمال، وتحت سطوة الإقطاع وغياب الدولة. حوّل بيته في هذه الفترة الى مستشفى ميداني لعلاج الجرحى والمصابين في المواجهات مع العدو الصهيوني الذي بدأت اطماعه تتجه نحو لبنان، والاهتمام بالنازحين من فلسطين والجولان، ولم يهدأ.
ولأنه “أبو الفقراء” والوطنيين الشرفاء، لم يجد أبناء الخيام أولى من الطبيب شكر الله كرم، لمنحه الثقة في إدارة مجلسهم المحلي الأول في العام 1957، برغم احتدام المنافسة وجبروت الإقطاع وأزلامه. وقاوم مع أبناء بلدته كل الحجج الواهية التي استخدمها خصمه في مواجهته، حتى جاء هذا الطبيب من الأقلية المسيحية رئيسا لبلدية الخيام ذات الأكثرية الشيعية، ليزرع حسه ونفسه في شق الطرقات وتطوير بلدته نحو الأفضل. وكان في فترة وجيزة قمر أبناء الخيام وقبلتهم في المشورة والرأي.
في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، كانت بلدته مع منطقة العرقوب تخوض أشرس مواجهة ضد العدو الإسرائيلي الذي بدأ من خلال النفوس الضعيفة التغلغل نحو الداخل اللبناني، فيقيم سعد حداد دويلته الحدودية المشرعة للاحتلال، ثم يهم في توسيع دويلته، وكانت الخيام الحلم المتراكم.
في شباط العام 1977، بدأ الاحتلال والعملاء تنفيذ حلم السيطرة على الخيام، فأمعنوا في قصفها وتدمير منازلها وقتل أهلها، وصمدت، بصمود الطبيب الذي كان يدرك بأنهم لن يعبروا وروح الثورة تنبض. ولما اشتد حصار المؤامرة من الخارج والداخل ترك من ترك نازحا نحو العاصمة، وبقي من لا حول ولا قوة له في الرحيل، وحده الطبيب شكر الله كرم رفض ان يتخلى عن حسام الطب او ان يترك ساح النزال وهو سيده، فآثر البقاء الى جانب المحتاجين يداوي ويحث على الصمود، الى ان تمكن الغادرون من الوصول اليه لتصفيته بعدما عجزوا في التهديد والتهويل.
أم هاني
تصف أم هاني عساف، حنة أرملة خليل عساف ذلك اليوم المشهود كأنها ما زالت في خضمه، فبكت وأبكتنا، وهي تردد “أرادوا قتله كي يقتلوا الصمود والتحدي” وقالت: “كانوا أولادي هنا في الضيعة، أصيب ابن عمي عساف القسيس ونقل لعند الدكتور شكر الله، لحقنا به لهناك. وهو يعالجه من إصابته، حضر بهيج عبد الله ونادى للدكتور أبي كرم الى الخارج وراح يلح عليه في مغادرة البلدة “أنت أعز من ولادي، أنا عم قلك اطلع من هون، يمكن ابني يجي يقتلك”. ورد أبو كرم: “هل أنت مجنون؟ أنا مصيري هنا في الضيعة، لو بدي روح ما كنت رجعت من عند ولادي”. حثثته على المغادرة ولم يقبل، ولم يكد يصل بهيج عبد الله الى اول الطريق حتى قتلوه. عندها عدت الى البيت أنا وأبو هاني، الله يرحمو، جمعت أغراض الأولاد وقلت لهم ارحلوا واتركونا هنا، وشجعهم على ذلك أبو كرم”.
وتتابع أم هاني: “ودعتهم وعدت، فوجدت الدكتور شكر الله يتمشى أمام البيت ويداه في جيبي بنطلونه. سألني: هل رحلوا؟ فأجبت: شو رأيك نغادر يا بو كرم! يمكن ان ننجو” فأجاب: أنت فزعاني عليّ يا مجنونة، انظري الى رفيقاتك في الجديدة (مرجعيون) كيف احترقت منازلهن. وتضيف: “لم يمر وقت طويل وإذ بأبناء الوسط والحي الجنوبي في الخيام يهرعون نحو شمال البلدة، نساء وأطفال وشيوخ تحت وابل من الرصاص، ورائحة البارود بدأت تفوح في كل مكان. ذهبنا نحو الحي الشرقي، حي البروتستانت، “لوين بدنا نروح”؟ الرصاص مثل الشتي، نزلنا الى الملجأ، وهو لم يغادر منزله. مساء عدت الى البيت، ولم أعرف كيف طلع علينا الضو. وإذ بكامل داهود “ماسك الجرس وعم يدق” شو القصة يا أبو نبيل؟ ألم تعرفي بعد؟ مش قتلو أبو كرم مبارح “وبدأنا الصراخ”. اغرورقت عيناها بالدمع وسكتت ثم تابعت: “حضر اثنان من الجوار وواحد من الضيعة، أطلقوا النار على منزله، ثم تقدموا نحو النافذة وأطلقوا من خلالها عليه بضع رصاصات: فأردوه. وقال لي من كان معه أنه تلفظ بجملة قبل ان يلفظ أنفاسه “أخ يا وداد لو اني سمعت منك” (وداد زوجته).
أردنا دفن الشهيد وهو جثة في منزله، سألني كامل داهود ماذا نفعل يا ابنة خالي؟ “رح روح عالخشخاشة وقيم امي من تابوتها، وأحضره من أجل مواراة بو كرم” وهكذا فعل. ومشى خلف النعش ونيس حشمي وفايز أبو خلف وسليمان الجلبوط وكامل عبد الله، الرصاص عليهم مثل زخ المطر. المتاولة كانوا يحبونه مثل المسيحيين وأكثر”.
سبق استشهاد الدكتور شكر الله كرم، رسالة سلمها الى وديع عساف وشقيقه إبراهيم وبقية العائلة، لينقلوها معهم الى بيروت. ويقول إبراهيم: “صعد معنا الى السيارة ونزل أمام البيت، تأخرنا بسبب إصابة زوجة حبيب خريس، وهذا الذي نجّانا من كمين بهيج العبد الله الذي أصيبت فيه هذه السيدة. أحضروها لعنده فقال ماذا سأفعل لها وأنا لا امتلك حبة أسبرين، خذوها الى حاصبيا ربما أمكن علاجها هناك. ولما وصلنا الى حاصبيا علمنا باستشهاده وكان الذي كان”.
يشار إلى أن رفات جمال كرم نجل الشهيد شكر الله ستنقل قريباً إلى الخيام، إذ انه مات ودفن في بيروت.
تعليقات: