محمد دكروب.. السمكري الشغّيل الذي صار أديباً ومناضلاً كبيراً
مات صديقي محمد دكروب قبيل الفجر بقليل.
قيل لي إنه غادر في الموعد نفسه الذي يذهب فيه العمال والفلاحون وشغّيلة الكفاح إلى أشغالهم، في الأرض والمعامل والمصانع والمطابع ودور النشر والكتب والمجلات، ليصنعوا فجراً لائقاً بالضوء والبحبوحة والحرية.
كنتُ أعتقد بيقين لا يتزعزع، أن هذا الرجل لا يمكن أن يشيخ، وهو المولود من زمان، من أواخر العشرينات الماضية في عام 1929. فمحمد دكروب، شأنه شأن السنديانات، التي تعمّر، وتتجدد، إذ تضرب جذورها في الأرض، لا بدّ أن يظلّ نضراً ويتسامق.
لم أشعر يوماً أن هذا الرجل ثمانيني، وأن جذعه المكابر يمكن أن يتعرض للخراب أو للانتكاسة. فهو كان من هذه القلة النادرة التي لا تستكين، أو ترضخ للتقاعد، أو للقيلولة، أو تفكّر في تسليم "السلاح"، الذي كان نضالاً بالكلمة والعقل، من أجل الحرية والحق والعدالة والمعرفة والديموقراطية.
لقد كان الدكروب حقاً، من هذه الندرة البشرية التي تصنع لنا شمس الفجر، ولهيب الكرامة الحرة، وهو السمكري الذي صار كاتباً بقوة النضال والكفاح والموهبة والإرادة.
المناضل دائماً، العارف دائماً، المستقبلي دائماً، الشديد العزم دائماً، الصلب الإرادة دائماً، القوي الشكيمة دائماً، المبتسم دائماً، الفتى دائماً، العنيد، الليّن، الطيّب، الكريم، الشهم، الرحب، الناقد، الدارس، المجتهد، المواظب على إيقاظ النيام والكسالى واليائسين، الحامل "المسّاس" الذي يخز به الرجعية فيصيب منها مقتلاً، والمشدد العزائم الرخوة في الزمن البائس والصعب.
ولد محمد دكروب عام 1929 في صور وتلقى التعليم الابتدائي في المدرسة الجعفرية في المدينة نفسها، ثم ترك المدرسة قبل الشهادة الابتدائية بسنتين، ليلتحق بدكان والده. عمل سمكرياً، وتقلب في أشغال عدة، ودرس على نفسه، وامتهن الصحافة والكتابة، في جرائد ومجلات لبنانية وعربية عدة، في مقدمها "الطريق"، مجلة الحزب الشيوعي التي عمل رئيساً لتحريرها، فكان خلال تلك الحقبات المتلاحقة حتى اليوم، علامة فارقة في تاريخ النضال والمعرفة.
هذا الذي ترك لنا قصص "الشارع الطويل"، و"جذور السنديانة الحمراء"، الرواية التسجيلية الوثائقية لحركة نشوء الحزب الشيوعي اللبناني وتطوره، و"دراسات في الإسلام" بالاشتراك مع حسين مروة ومحمود امين العالم وسمير سعد، وكتاباته النقدية في "الأدب الجديد والثورة"، و"شخصيات وأدوار/ في الثقافة العربية الحديثة"، و"حسين مروة/ شهادات في فكره ونضاله"، و"قصة رواد يجارون العصر"، و"الذاكرة والأوراق"، و"النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل.
لقد ظل الدكروب يكافح بالكتابة والعقل حتى الرمق الأخير. وها السمكري الشغّيل الذي صار أديباً ومناضلاً كبيراً، يغادر قبيل الفجر بقليل. سلامي اليه.
.... ....
وداعاً .. محمد دكروب
طلال سلمان
... ولكن لماذا تعجّلت الرحيل، وأنت عاشق الحياة حتى الثمالة، شاعر الجمال حتى التعبّد في محرابه، ظريف الحضور في أي مجلس، المشع ثقافة بقلبك الأكبر منك، ونحن لما ننهِ حوار العمر، بل عمرينا المتشابهين في نقطة الانطلاق من تحت الصفر بمسافة ضوئية، وفي المسيرة الممتعة في قلب الصعوبة، بينما الحب يعلّمنا كتابة الحياة ويأخذنا إلى الشعر والفرح والأمل المنشود؟!
لماذا سقطت من أيدينا في «الطريق» وقد كنت طريقنا إلى الأفكار والمبادئ، وأنت «السنديانة الحمراء» الأقوى من الزمن، الصامدة لعاديات الأيام وقد تجمّع في أفيائها جيلان بل ثلاثة بل أربعة ممّن درّبت على الارتقاء إلى ذرى المعرفة بتحطيم الأصنام وكسر الحواجز وإزاحة معوقات صعود الفقراء وصعاليك الأرض إلى القمة بعقيدة الإيمان بالإنسان.
لماذا، محمد دكروب، تركتنا «على الطريق» بغير رفيق يعلّمنا الحب، حب بسطاء الناس الكادحين خلف أحلامهم يسقونها عرق جباههم ونتاج عقولهم من أجل أن يكونوا من أرادوا أن يكونوه؟!
لماذا، أيها الشيوعي الأخير، تخليت عن رايتك التي رفعتها دهراً، وقاومت كل من حاول إسقاطها أو اختطافها لتشويهها أو الانحراف بها عن المسار الصحيح، وانصرفت منفرداً، معتلاً، مكسور الظهر، مضرج الرأس بدماء وحدتك، بعيداً عن قلمك الذي لم يتوقف يوماً عن رسم الدرب إلى الغد الأفضل؟!
لماذا غادرت أيها الأمي الذي علّم نفسه بنفسه، قبل أن تكمل المكتبة التي أنتجت بآخر ما كتبت عن المعلمين الكبار الذين أغنوا فكرنا بالثقافة وعلّمونا أن نؤمن بقدراتنا وبكفاءتنا وبأهليتنا لأن نكون في هذا العصر ومن أهله... إن مخطوطاتك تنتظر «المراجعة الأخيرة» قبل أن تدفعها إلى المطبعة، فلماذا قصّرت فلم تنجز مهمتك التي كنت تراها رسولية، وإن أنت تحدثت عنها بنشوة التلميذ الذي كتب فروضه المدرسية وأسقط خوفه من المدرّس؟!
لماذا أيها المؤرّخ لساكني وجداننا وناقل حوارهم مع العصر، أمين الريحاني وجبران خليل جبران وعمر فاخوري ومارون عبود وحسين مروة، ومهدي عامل قبل المفكرين والمبدعين العرب الذين قرأت نتاجهم تمهيداً لأن تعرّفنا بأفكارهم المنيرة... لماذا لم تكمل المهمة التي انتدبت نفسك لأدائها؟
با ابن الفوّال، بيّاع السمسمية، في صور، بيّاع الترمس في الخمارات، موزّع الياسمين على العشاق، عامل البناء، السقّا، السمكري وكاتب الحسابات عند تجار الورق، المتطوّع في جيش الإنقاذ من أجل فلسطين... كيف تغادر وأنت لما تنجز واجبك الوطني، وكيف تخلي موقعك في الجبهة وليس لك بديل؟!
أيها الصحافي تحت التمرين، الشيوعي بالإرادة، الكاتب بالرغبة، مطارد الموهوبين لكي يقولوا كلمتهم فتصحّح ما يخطئون فيه، أنت الذي علّمت نفسك بنفسك، ومحتضن الموهوبات اللواتي يقصدنك فتعطيهن من روحك وتفرح بتقدمهن وتوهج الأسماء الجديدة في عالم الكتابة الرحب، فيندمن أنهن قد عرفنك متأخرات عن زمنك، ويُسعدك أنهن أدخلنك إلى زمانهن، فأعدن قلبك إلى الخفقان وأنعشن روحك وبعثن التماعة الشباب في عينيك الصغيرتين اللتين تقرآن الأفكار والنيات قبل المشاعر وبعدها؟
أيها الشاب في الرابعة والثمانين بروحك التي لا تغادر العشرين، كيف استطعت الجمع بين كل مَن عرفت، وكل المهن التي مارست، وكل الكتب التي سطرت، وكل الصداقات الغالية التي ابتنيت بالحب.. وليس إلا بالحب.
أيها العاشق الذي ستفتقده الحياة وقد غببت منها حتى الثمالة، وستفتقدك كل الصبايا اللواتي أخرجتهن من خفرهن البدوي أو الريفي أو البلدي إلى عشق الحياة، وكنت تمنع غيرك من السلام عليهن لأنك لا تحب أن تشرك في «حبيبك» أحداً..
أيها الكاتب بفكره، معلّم ذاته، الممتلئ ثقافة وشغفاً بالجمال..
أيها الذي قلبه أكبر منه، وقلمه لا يكفّ عن تجديد ما لا يجوز أن يهمل من سِير المبدعين لكي تعرف الأجيال الجديدة أنها تملك كنوزاً من الفكر أنتجها الأجداد والآباء وليست متخلّفة ولا تليق بعصر الاكتشافات العلمية المذهلة.
أيها الإنسان الطيب الذي جاب نصف الكون يطلب المعرفة ليوزعها على الشغوفين بالعلم المندفعين على طريق التقدم بهمة المناضلين من أجل الغد الأفضل: سلاماً!
وداعاً محمد دكروب: الإنسان النبيل الذي أعطى كثيراً ومات فقيراً، إلا بصداقاته وكتبه وتلامذته الكثر ممن تعلّموا ولسوف يتعلّمون من «الطريق» ومن الذي حدّد معالم الطريق إلى المستقبل الأفضل.
تعليقات: