صورة من الأرشيف للشاب جاد رشيدي (لما كان يافعاً) يجمع الفطر في منطقة التحصينات الإنكليزية (الركايز) قبل هدمها
تركت حادثة إقدام أحد مالكي عقارات في بلدة الخيام على تدمير «ترانشيات» الخيام «الجنوبية»، وهي عبارة عن تحصينات خلفها الجيش الإنكليزي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بلبلة واستنكاراً في صفوف الأهالي، وصلت إلى بلدية الخيام التي نفت حدوث ذلك في منطقتها العقارية، ثم فوجئت، ثم وضعت الحادثة كقضية «طارئة» على جدول أعمالها.
لم يبق من المكعبات سوى أطلال، إذ قامت إحدى الجرافات التي يقودها أ. ع. بتكليف من ح. أ. بتدمير أكثر من مئة مكعب كانت تنتشر عند الجهة الجنوبية لبلدة الخيام القريبة من معبر «بات التنيّة» وتسويتها في الأرض. كما ردمت مجموعة كبيرة تقع في الجهة المقابلة، إنما في عقارات تعود لمنطقة «سرده» العقارية.
ويقول أحد أعضاء البلدية: «نستغرب حدوث ذلك فيما لم يقم أحد من شرطة البلدية أو أجهزتها المعنية بإبلاغ رئيس البلدية أو أعضاء المجلس البلدي بذلك لمواجهة الأمر ومنع تفاقمه وللوقوف بوجه من يقوم بمحو ذاكرة تلك الحرب أو الذاكرة التراثية للبلدة، فقط من أجل استخدام حجارتها أو استثمار الأرض في مشاريع زراعية أو تجارية. كيف يمكن لشخص واحد تدمير ذاكرة جماعية وكلنا يتفرج أو في غفلة من أمره؟ أنا حزين لذلك».
بداية، أشار رئيس بلدية الخيام عباس عواضة إلى «أن ما يطال هذه المكعبات الاسمنتية لا يقع في النطاق الإداري للخيام، وإلا لكنّا منعناه. ونحن سننسق مع المعنيين في منطقة سرده العقارية لمنع تفاقم هذا الاعتداء». إلا أنه وبعد علمه بعكس ذلك، أعلن عن «فتح تحقيق بالأمر».
يحفظ العابرون بين تخوم بعض القرى، بين حدود فلسطين المحتلة الشمالية وقضاء مرجعيون، وجود خطوط دفاعية إسمنتية قديمة، يعود عمرها إلى نحو 72 عاماً. وهي مجموعات من المكعبات الإسمنتية المتناسقة الطول والعرض والارتفاع، بنحو مترين، محشوة بالحجارة الصلبة والصخور، وتعرف بالـ«ترنشيات» (مستمدة من كلمة خندق بالفرنسية Tranche). وقد أنشأها الجيش الإنكليزي بعد عام 1941، لتكون خطوطاً دفاعية أولى وثانية وثالثة في مواجهة جيش «فيشي» الفرنسي. ونفذها في حينه عمال لبنانيون من مناطق مرجعيون والنبطية وحاصبيا.
تعرض قسم كبير من هذه المكعبات، قرب «باب التنيّة»، عند ضفتي المعبر بين الخيام وسهلها، ومنطقة الوزاني نحو فلسطين؛ وعند تخوم بلدة برج الملوك في قضاء مرجعيون، من ناحيتها الجنوبية الغربية، وقرب دبّين، جارة مرجعيون في فترة الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، مدة ربع قرن، للكثير من الاعتداءات. وقد تعرضت «الترانشيات» في فترة الاحتلال الإسرائيلي لعملية تخريب بعدما اقتلعتها الجرافات من مكانها، أو دمرتها. وتناولتها بعض الأيادي بغية استخراج الصخور منها، للبناء وكسارات البحص. ثم حاول مواطنون بعد التحرير في العام 2000 تدميرها للاستفادة من حجارتها الصخرية، لكن تدخل البلديات من جهة والسلطات الرسمية والمدافعين عن البيئة والتراث من جهة ثانية، أوقف هذا الاعتداء تحت عنوان «انها جزء من الذاكرة التراثية في منطقة مرجعيون ويجب الحفاظ على الذاكرة الجماعية للناس، وما مرّ على هذه المنطقة من حقبات وحروب، لتكون عبرة للأجيال المقبلة».
وترتبط هذه الخطوط الدفاعية، بالخندق الطويل؛ والعريض، الذي حفره الجيش الانكليزي بين دبين والخيام وإبل السقي، لإعاقة تقدم وتحركات الجيش الفرنسي «الفيشي».
ويشير المسؤول عن الآثار في الجنوب علي بدوي إلى أن «المصنفات التراثية في العرف اللبناني، يجب أن يتجاوز عمرها 200 سنة، لكن ثمة مواقع قد تعود لتاريخ حديث على نحو معتقل الخيام أو المستشفى الإنكليزي أو المطار الإنكليزي أو هذه الترانشيات في منطقة مرجعيون، تعتبر من الذاكرة الجماعية وتُعنْوِن مفاصل أساسية في حياة المنطقة، لا يجوز تدميرها أو العبث بها من دون العودة إلى السلطات المحلية أو إلى وزارتي الثقافة أو السياحة لتبتّ في أمرها أو لتجيز إزالتها».
ويتذكر أحد المسنين في بلدة الخيام، أن هذه «الترانشيات» وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد جلاء الكتائب الإنكليزية عن المنطقة، «كانت مسقوفة ومحصنة بصفائح حديدية سميكة، قام الأهالي بإزالة الحديد بواسطة المطارق والاستفادة من بيعه، فيما بقيت هذه المكعبات إلى أيامنا هذه كذاكرة لحرب 1942 التي شكلت المنطقة جزءاً منها، وشارك أبناء المنطقة والجوار في بناء تحصيناتها بأجور يومية».
تعليقات: