المواجهة بين عناصر الجمارك وفريق \"الجديد\" ومؤيدين له في شارع المصارف أمس. (ناصر طرابلسي)
عندما يتوارى «الفساد» خلف العنف
اعتداء على احتمال «دولة»
لا يمكن تبرير ممارسة العنف على أي مواطن أعزل، لم يبادر إلى العنف، فضلاً عن كونه صحافياً يعمل في «الاستقصاء» حول الفساد. هكذا في القانون والأخلاق والقيم والعرف. عندما يكون الحديث عن ضرب مبرح، واعتداء جسدي مباشر، يحصل الآن، يصبح من السخافة الحديث عن الأسباب. أليست هذه البلاد ديمقراطية بحسب أصحاب لغة الدولة والمؤسسات؟ الخلاصة: ممنوع على الدولة، بمختلف أشكال ثيابها، أن تعتدي على مواطن... تحت طائلة رفع الصوت إلى حدّ «التشليف»
قولوا ما شئتم في «مهنية» رياض قبيسي ورامي الأمين وفريق عمل «الجديد». قولوا ما أردتم في «عقلية» القناة «المشاغبة» في تناولها للمواضيع. قولوا إن قبيسي أراد أخذ مقابلة بـ«القوة» من مسؤول في إدارة الجمارك، وإن الأخير رفض الطلب، وله ذلك، فراح الأول ينادي عليه بمكبّر صوت في وسط الشارع ويصفه بمختلف نعوت «الفساد». لكلٍ رأيه، وهذه مساحة «القول» للجميع. أليست هذه البلاد ديمقراطية والحاكم فيها هو القانون كما يقولون؟ يمكن الجميع أن ينقسم بين مؤيد ورافض. لكن ما لا يمكن قبوله هو إعطاء الحق لعناصر الجمارك، أو أي من أشخاص الضابطة العدلية، في التعرّض بالضرب وممارسة العنف على صحافيين تشهد الكاميرات أنهم لم يبادروا إلى العنف.
الكل يتحدّث عن القانون. حسناً، القانون يعطي الحق للمتضرر بالادّعاء أمام القضاء في جرائم القدح والذم والتشهير. فلماذا اللجوء إلى أعقاب البنادق؟ ما هذه «الذهنية» التي، بلباس الدولة، تظن أنها فوق كل نص وأعلى من كل قانون؟ المسألة أبعد من عناصر جمارك دخلوا إلى السلك طمعاً بوظيفة، بل في مسؤول هو غالباً ببدلة رسمية وربطة عنق، يعطيهم الأوامر فينفّذون. من أعطى الأمر كان يعلم أن ثمّة كاميرات تُسجل ما يحصل. كأنه يريد أن تصل الرسالة إلى أبعد من شارع المصارف في وسط بيروت، وبالتالي هو إلى هذا الحد «مش فارقة معاه».
ما الذي حصل؟
جاء قبيسي إلى مبنى إدارة الجمارك، في وسط بيروت، طالباً لقاء مدير عام الجمارك بالإنابة شفيق مرعي. رفض الحرس طلبه، فأخبرهم أن لديه إذناً بالمقابلة من وزير المال، صاحب الوصاية الإدارية على الجمارك، فردّوا عليه بأن هذا لا يلزم مرعي بالموافقة على إجراء المقابلة. بالتأكيد هذا حق لمرعي ولا شيء يلزمه. لكن، في مثل هذه الحالة، يصبح مفهوماً أن يزداد منسوب الارتياب من قبل طالب المقابلة، خاصة أن مرعي تدور حوله شبهات «فساد»، بحسب «التحقيقات الصحافية» التي أجراها قبيسي وفريق عمل البرنامج «الاستقصائي».
شهود عيان قالوا إن قبيسي رفع صورة لمرعي، وراح ينادي عبر مكبّر صوت باسمه، ويصفه بـ«الحرامي» وما شاكل من أوصاف. في تلك الأثناء كان هناك اجتماع في الإدارة بين مرعي وضباط كبار من الجمارك، فسمعوا الصوت. أطلّوا من مكاتبهم ورأوا ما يحصل تحت. حاول عناصر الجمارك إبعاد قبيسي عن الشارع، علماً بأنه شارع عام ويضم الكثير من المؤسسات الرسمية والخاصة، فأبى واستمر في ما كان يفعله. هنا نزل عناصر الجمارك، منهم بلباسهم الرسمي ومنهم بلباس مدني، وقمعوا قبيسي ومن معه بالقوة، وضربوهم ضرباً مبرحاً، وفي النهاية أوقف قبيسي ومعه ثلاثة ممن كانوا معه. وقد نقل عن وزير كان يزور وزير المالية محمد الصفدي، أن الأخير طلب من مرعي أكثر من مرة عدم توقيف الصحافيين، فكان يأتيه الرد: «الأمر ليس عندي».
لاحقاً، وبعد دعوات للتضامن مع الصحافيين، نزل عدد كبير من الزملاء إلى المكان.
حصل تصادم بين المتضامنين وعناصر الجمارك. استعملت أعقاب البنادق وأصيب بعض المتضامنين بكدمات وجروح وسالت دماء بعضهم. مصادر الجمارك قالت لـ«الأخبار» إن قبيسي «جاء ومعه 12 شخصاً، وعُدّ الذي فعلوه تخطيطاً لأعمال شغب داخل حرم الإدارة. وبالتالي، في ظل خشية من الاعتداء علينا، كان لا بد من الدفاع عن النفس».
شرعية التوقيف
دار جدال أمس إن كان يحق لعناصر الجمارك توقيف قبيسي ورفاقه، وما إذا كان هؤلاء من أشخاص الضابطة العدلية، خاصة في ظل اكتفاء عناصر قوى الأمن الداخلي بالوقوف بعيداً. المادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تحدد أشخاص الضابطة العدلية، لا وجود للجمارك في نصها. لكن في المادة الملحقة (39) يرد ذكر للجمارك، لكن فقط «الموظفين المختصين بالرقابة» ومن دون تعميم. هذه المادة تتحدث عن حدود الاختصاص، في عمليات ضبط التهريب، وليس في أماكن أخرى. لكنّ المعنيين يتحصّنون وراء المادة 347 من قانون الجمارك، التي تنص على أن «موظفو الجمارك هم بحماية القانون، ويحظر على أي كان إهانتهم أو تهديدهم أو إساءة معاملتهم أو معارضتهم أثناء قيامهم بوظيفتهم وذلك تحت طائلة تعرّض مرتكبي هذه الأعمال وشركائهم للعقوبات المنصوص عليها في المادة 426 من هذا القانون». المادة الأخيرة تحيل على جزاء نقدي، ثم إلى قانون العقوبات، ولكن كل هذا يعني أن الأمر في سياق القانون والمحاكم، ولا شيء يتحدث عن الحق في استعمال العنف والضرب المبرح.
بعد نقل الموقوفين إلى قصر العدل في بيروت، وانتقال المتضامنين إلى هناك، نزل المدّعي العام لدى محكمة التمييز بالوكالة القاضي سمير حمود إلى الشارع، وقال إنه لم يُسطّر أي مذكرة توقيف بعد، ولا يمكنه قول المزيد قبل انتهاء التحقيقات التي كانت تجريها المباحث الجنائية مع الموقوفين. هذا يعني أن حمود قبل بشرعية توقيف الجمارك للأشخاص، لكن اللافت أن عناصر الجمارك، الذين ظهروا يضربون قبيسي ومن معه، لم يجر توقيفهم. لاحقاً، عُلم أن حمّود طلب تزويده بأسماء عناصر الجمارك الذين ظهروا في «الفيديو».
شربل: آخ يا بلد
يفهم وزير الداخلية مروان شربل أن يكون قبيسي، أو أي صحافي آخر، أخطأ في الأسلوب والطريقة، ولكن «هذا لا يمكن أن يبرر التعرض له بالضرب... هناك قضاء ووحده المعني بأخذ الحق». وفي حديث له مع «الأخبار» أضاف شربل: «لقد اتصل بي شفيق مرعي، وأخبرني بما حصل، وأن عناصر الجمارك من منطلق غيرتهم على سمعة مديرهم بادروا إلى الرد على قبيسي ومن كان معه. عندها أرسلت إلى مبنى الجمارك دورية من قوى الأمن الداخلي لإخراج الشبّان الأربعة، وترك الأمر بيد القضاء». بدا شربل مستاءً جداً من كل الذي حصل، فـ«البلد اليوم يمر في مرحلة مخيفة. لدينا انتحاريون وسيارات مفخخة وموت ودمار، وبالتالي علينا أن نتكاتف اليوم جميعاً وعدم الالتهاء في قضايا نحن في غنىً عنها. آخ على بلدنا أين أصبح».
تضامن وإطلاق سراح
ليس سهلاً إحصاء الشخصيات المعروفة التي تضامنت مع الصحافيين، والذين نزلوا ليلاً إلى أمام عدلية بيروت. بيانات كثيرة صدرت مؤيدة للصحافيين، ولكن كان لافتاً أن ثمة بيانات رسمية أيضاً تعاطفت مع الجمارك. وزير الداخلية استغرب عندما رأى هناك أحد الكارهين لوسائل الإعلام، والذي لطالما هاجمهم، ثم «رأيته فجأة هناك. خلص ما كان بدها هالقد القصة من الأساس. لا يجوز التعرض لكرامات الإدارات العامة بلا وجه حق، وبعيداً عن حكم القضاء، ولكن فوق كل شيء أقول وأكرر ممنوع التعرض للصحافيين بالضرب. هؤلاء أكثر شيء يمكن أن يفعلوه هو الكتابة ورفع الصوت، لا يمكن أن يضروا بأي مسؤول جسدياً، وبالتالي تعد جريمة التعرّض لهم بالأذى الجسدي». بالتأكيد ثمّة من يقول إن هذا هو «المنطق». ولكن في بلاد يجري فيها كل شيء بعيداً عن المنطق، هل يجب على الصحافة، أو قل من يبحث عن المعلومة (الحقيقة)، أن يعمل وفقاً للمنطق؟ هذا جدل مهني لن يكون القفز عنه سهلاً. أصلاً ما هو المنطق في هذه البلاد؟
نحو الساعة الثامنة مساء أمس، تُرك الأشخاص الأربعة، بعدما كشف عليهم أحد الأطباء الشرعيين بإشراف القضاء، وبعد الاستماع إلى إفاداتهم. لكن في المقابل التحقيقات لم تنته. ستتابع خلال الأيام المقبلة. وإلى ذلك الحين، يأمل مسؤول أمني رفيع أن «لا تنفجر سيارة أو يأتي انتحاري، فيعود الناس إلى هاجس الموت المحدق بهم في هذه البلاد».
تعليقات: