75% من موازنة وزارة الشؤون تذهب الى جمعيات الرعاية الاجتماعية (مروان بو حيدر)
عندما خرجت قضية اتهام الاب منصور لبكي بالتحرش الجنسي بـ3 أطفال مودعين في مؤسسته الرعائية، تفتحت العيون على قضية المودعين في مؤسسات تشبه تلك. المفكرة القانونية نظمت ندوة تناولت فيها أوضاع 23 ألف طفل مقيم في ما يسمى «دور رعاية الايتام»، سنفاجأ بأن ما يقرب من 21 ألفاً منهم هم فقراء وليسوا أيتاماً، كما يفترض الظن. وإن كان هذا سيئاً للبعض، فمن المفيد تذكيرهم بالأسوأ، وهو أن عائلات بأكملها قد تودع هناك، فيما الدولة تتخلى عن دورها وتتصرف كأنها مجرد صندوق لتمويل مؤسسات طائفية ومناطقية لا نعرف ما هي الحقوق التي تضمنها للطفل خلف جدرانها
للعلم فقط: 90% من الأطفال «المودعين» في مؤسسات الرعاية، المتعاقدة منها وغير المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية، ليسوا أيتاماً. هم فقراء فقط. يملكون أماً وأباً، لكنهم لا يملكون القوت الذي يبقيهم في حضن العائلة. «نسبة» مخيفة لحقيقة ظلت، ربما، حتى فترة قريبة، راسخة في لاوعي كثيرين أن دور الرعاية إن عنى وجودها شيئاً، فهو أنها وجدت لتؤوي من لا يملك عائلة أو على الأقل من يتعرض للأذى فيها. حقيقة مخيّبة، وستصبح مخيبة أكثر عندما نترجم تلك النسبة المئوية إلى أرقام. عندما نعرف أن في لبنان 21 ألف طفل من أصل 23458 «طفلاً مودعاً» في مؤسسات الرعاية لأن عائلاتهم لا تمتلك القدرة على إعالتهم، ومصنفون تحت خانة «الحالات الاجتماعية». هؤلاء هم أساس وجود تلك المؤسسات، وليس الأيتام كما يصوّرون. الأرقام استخلصتها «مؤسسة البحوث والاستشارات» عن إحصاءات عام 2006، ووردت في دراسة تمحورت حول وظيفة تلك المؤسسات ومن يوجد فيها، وعرضت أول من أمس في ندوة «المفكرة القانونية» حول «الأطفال المحرومون من الرعاية الأسرية في لبنان: بين الرعاية المؤسساتية والرعاية البديلة». لإثبات هذا الواقع، تأخذ الدراسة، على سبيل المثال، أعداد الأيتام الذين رصدتهم المؤسسة في بحثها الميداني في عام 2005، فتجد أن الأيتام في تلك المؤسسات لا يتعدى عددهم 1013 طفلاً، منهم 1009 فقدوا أحد الوالدين و4 فقط فقدوا الوالدين معاً. ماذا يعني كل هذا؟ سؤال سيحيلنا على أسئلة أخرى عن المعايير التي على أساسها يجري إيداع الأطفال في تلك المؤسسات، عن الحقوق لهؤلاء ومدى احترام المؤسسات لها، وعن تلك «المياتم» المنتشرة هنا وهناك، من يرعاها، والجهات التي تنتمي إليها، وكيف يتم اختيار تلك التي تتعاقد معها وزارة الشؤون الاجتماعية، وعلى أساس أي معايير، وعن التكاليف، وعن العوائق الكثيرة أمام إطلاق سياسات عامة باتجاه مراقبة وشفافية أكبر، والعلاقة بين هذه المؤسسات من جهة والدولة والجمعيات المعنية بحقوق الانسان والطفل من جهة أخرى، وهل وجود الأطفال في المؤسسات أقل كلفة فعلاً من وجودهم ضمن عائلاتهم لكي تتخلى الدولة عن واجباتها في دعم العائلات نفسها لا الجمعيات التي تؤويهم. أسئلة كثيرة تضع الإصبع على «أكبر القضايا من جهة وأقلها وجوداً بالنقاش العام من جهة أخرى»، بحسب نزار صاغية، المدير التنفيذي للمفكرة.
فلنبدأ القضية من الأرقام. تلك التي أجرتها مؤسسة البحوث والاستشارات بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية وبالتعاون مع منظمة اليونيسيف عام 2006. يومها، خرجت الدراسة بـ«المفاجآت»، يقول معدّها رضا حمدان. ربما، هي نفسها التي حملت وزارة «الشؤون» على عدم نشرها طوال تلك السنوات... رغم اختلاف الحقبات. فماذا حملت؟
عدا عن نسبة الـ90% من الفقراء، فإن أخطر ما ورد فيها أن عائلات بأكملها قد تكون هناك. وهنا، يشير حمدان إلى أن هناك «95% من الاطفال هم إخوة، أي 19 ألفاً. مثلاً هناك 180 منهم يشكلون عائلات من ستة أشقاء و15 ألفاً من شقيقين و500 فقط من طفل واحد من العائلة». ثمة تفاصيل أخرى، منها مثلاً تشارك الأطفال في الثياب، حيث تبلغ النسبة 13%، وتصبح مقززة أكثر عندما نتحدث عن مشاركة في الملابس الداخلية بمعدل 6,2%، عدا عن مساحة النوم التي لا نراها، ولكننا نقرأها، إذ خلصت الدراسة إلى اعتبار المساحة التقريبية 4,8 أمتار للطفل الواحد، متغاضين عن 40 طفلاً ينامون في غرفة واحدة. هل سأل أحدنا أيضاً عن ذلك وعمن يقومون برعاية الأطفال؟ من هم؟ بحسب الدراسة، «معظم الموظفين يعملون بدوام جزئي، وجزء مهم منهم غير مجهز للتعامل مع الاطفال، وليسوا مؤهلين كفاية على المستوى التعليمي، إذ إن غالبيتهم لا يملكون أكثر من شهادة البكالوريا». أما ما هو أهم، فهو «غياب دور الأهل، نظراً إلى انعدام وجود لجان أهل قد تشارك في أي قرار». غياب يشبه تماماً الغياب الأكبر للدولة التي تتعاطى معها المؤسسات على أنها «صندوق علي بابا»: هي تعطي الأموال وهم يمارسون دورهم المزدوج: يصرفون ويراقبون.
بعيداً عن ذلك، ما الذي يدفع الأهل إلى إيداع أطفالهم في المؤسسات؟ أول ما قد يجيب به هؤلاء هو سعيهم للتعليم. لكن، ماذا لو سعوا الى مدارس رسمية تملكها الدولة في مناطقهم؟ يجيبون: حتى هذه لا طاقة لنا على تسديد قسطها. شرطان قد يكونان سبباً للإيداع، ولكن ليس بالضرورة أن يتحققا في مؤسسات الرعاية. فبالنسبة إلى التعليم، تبيّن الدراسة أن نسبة الترفع لمن يتعلمون داخل المؤسسة (83%) أقل من نسبتها خارجاً (87%)، على عكس نسبتي الرسوب والتسرب اللتين هما أكبر في المؤسسة، فضلاً عن العوامل النفسية التي لا طاقة للأرقام على وصفها. هكذا، تنتفي الحاجة. وهذا استنتاج سريع، سيتبعه آخر عن بقاء الطفل في حضن العائلة. فكم ستبلغ تكلفته؟ بحسابات تراعي مؤشر الأسعار، ستخلص الدراسة إلى أن الطفل في العائلة الأفقر يكلف 118 ألف ليرة لبنانية، فيما «الراس» في المؤسسة يكلف 133 ألف ليرة شهرياً من وزارة الشؤون، إضافة إلى تكاليف أخرى من وزارتي التربية والصحة. وهذا إنذار للدولة كي تقوم بواجبها بدعم اليتيم في أسرته مثلاً. سيأتي هنا من يسأل بطبيعة الحال: كيف سنضمن أن الأموال ستصرف في مكانها على الأطفال؟ وعلى أيّ معايير؟ وهل الدولة قادرة على مواجهة فقراء آخرين سيسارعون إليها؟
بعيداً عن تلك الأسئلة المحقة، يجب على «الدولة استعادة نفسها»، يقول أديب نعمة، المستشار الإقليمي في منظمة الإسكوا، الذي كان أول من تحدث عن رعاية الأطفال من منظور الحقوق.
بتجربة مؤسسات الرعاية التي تبلغ 176 مؤسسة، بحسب دراسة عام 2007، يتبين أن الدولة، من خلال وزارة «الشؤون»، تخلت عن دورها. صارت صندوقاً، أو في أحسن الأحوال وسيطاً لتحويل الأموال إلى المؤسسات، بلا معايير. ويصبح الأمر أكثر مأسوية عندما نعرف أن ما يزيد على ¾ موازنة الشؤون تذهب إلى تلك المؤسسات. فعندما كانت الموازنة تبلغ 109 مليارات ليرة، كانت حصة المؤسسات 66 ملياراً، وبقي المبلغ على حاله حتى عندما انخفضت الموازنة إلى 88 ملياراً في عام 2005. والأسوأ من كل ذلك أن هذه المؤسسات في جلّها مؤسسات «المحاصصة الطائفية». من المسؤول عن كل هذا؟ برأي نعمة، هي سياسة التراكم. فهو، الذي عمل مديراً لمشروعين لسنوات في «الشؤون»، أكثر العارفين بغياب «التخطيط. أشياء يتراكم بعضها فوق بعض من دون هيكلية منظمة للخدمات والسياسات ستوصل إلى ما نحن عليه اليوم». أما في العقود التي ترك تقدير معاييرها للمؤسسات، فثمة تخمة مبنية على منطق الطوائف والمناطقية. هنا، صار من الضروري التفتيش عن حل. وقد توصل نعمة في تقرير أعدّه للوزارة ما بين عامي 2002 و2004 إلى حلول قد تريح الدولة من دفع ربع موازنتها، منها مثلاً الإجراءان اللذان صدر على اثرهما قرار في «الشؤون» وجمدا بعد فورة المؤسسات المستفيدة من وجود الأولاد فيها: الأول الذي يقضي بإيقاف أو عدم استقبال من بلغ 18 عاماً، ووقف الوزارة عقود التعليم المهني الخارجي والداخلي العالي في جميع المؤسسات، إضافة إلى إجراءات أخرى تتعلق بشروط تحويل الأطفال. فماذا لو توصلنا ربما إلى شرط للتحويل يقضي بصدور قرار قضائي لكي يخرج الطفل من الأسرة؟ ليست الحالات كلها متشابهة للخروج، فوجود الطفل أولاً وآخراً في العائلة هو الأمثل، وهذا ما تنص عليه اتفاقية حقوق الطفل. بعض من هذه الإجراءات أقامت الدنيا ولم تقعدها، فكيف يمكن أن تقنع صاحب مؤسسة مثلاً يسجل في مؤسسته 500 طفل، إن فرضنا أنه على «الراس» يتقاضى 133 ألفاً شهرياً، وحتى عن دوامات الصيف التي لا يحضر فيها الطلاب؟ هذا الواقع الذي يذكّرنا بأنواع كثيرة من هذه النماذج، منها مؤسسات التعليم الخاص ومراكز الاستشفاء مثالاً.
تعليقات: