تجد في عرسال اليوم السوريين الوافدين من القصير وريفها وبعض حمص ومعهم نازحو القلمون وريف دمشق (سعدى علوه)
تغيرت عرسال. ليس ذلك التغيير الذي طرأ عليها إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري حين زحف بعض أهلها نحو ساحات وسط بيروت ليشكلوا وقود بعض التظاهرات «المليونية».
وليست هي نفسها التي فتحت ذراعيها لثوار المعارضة السورية في بدايات الأحداث في الجارة المفتوحة على حدودها بمدى يتجاوز الأربعين كيلومتراً.
عرسال العروبة واليسار، على مر التاريخ، تعيش مخاضاً مختلفاً. مخاض مساءلة الذات لتفتح حساب «الحقل» على «بيدر» الواقع الذي صحت لتجد نفسها في خضمّه.
عرسال، بلدة الأربعين ألف نسمة ممن نستهم الدولة هناك في سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية، تنوء اليوم تحت عبء احتضان نحو ثمانين ألف سوري بين نازح ومقاتل. تعض على جرح «وصمة» الخروج على القانون والمحيط، لتدفع ثمن مراهنات بعض نسيجها الديموغرافي على ما بدأ في سوريا قبل عامين ونيف. شأنهم في ذلك شأن كثير من السياسيين في لبنان. وإذا كان من السهل على «الزعماء» إعادة تموضعهم ساعة يشاؤون وفق حسابات تختلف هنا وهناك، فإن استدارة عرسال ليست بالمرونة نفسها، فكيف إذا كانت مثقلة من جهة، و«لا تملك قرارها كاملاً»، من جهة ثانية، كما يؤكد كثرٌ من العراسلة اليوم.
عرسال التي حوّل ابناؤها الجبال الجرداء المحيطة إلى مقالع تزين بجودة حجرها وجماله بيوت لبنان من اقصى الشمال إلى الجنوب، لم تعرف البطالة يوماً. من لم يشتغل بالصخر ومقالعه ومناشره، استصلح ما تيسر من أراضي الجرد وحولها إلى بساتين تثمر كرزاً فريداً ومشمشاً نادراً وتفاحاً كقلب الصباح.
ومن المقالع غادرت آليات «البيك آب» تنقل الحجر الصخري نحو البقاع اللبنانية كلها، لتستنبت قطاعاً انتاجياً إضافياً يوفر مئات فرص العمل. ولأن عرسال منسية في الجرود من دون الفرز والضم، ظل قطاع بنائها ناشطاً بعيداً عن الرخص والتخطيط. وتجد في عرسال البنّاء ومعلم «الورقة» والسمكري، والبلاط والدهان والعامل اليومي. كانت كخلية نحل، لا تعرف الكلل والخمول. ومن لم يشتغل بالحجر والأرض والبناء، تخصص في قطاع التجارة الحدودية، التوصيف الملطف للتهريب الناشط بين سوريا ولبنان. تهريب يتلبس حاجات المرحلة وسلعها في السلم كما في الحرب.
مع ذلك، لم تكن عرسال غنية يوماً إلا بتاريخها ووقوف أهلها ضد الظلم اينما كان. لم تبخل على الوطن بالشهداء، لا في صفوف الحركة الوطنية في الداخل، ولا على الحدود الجنوبية عندما قدّمت أوائل الشهداء ضد العدو الإسرائيلي. تضحيات جوبهت بنكران الجميل من الوطن أولاً، ومن القوى السياسية التي استغلتها ثانياً، وعلى اختلاف أطيافها. حتى «حزب الله» الذي وجد أرضية متضامنة في عرسال في عز مقاومة إسرائيل وقبل تمذهب الاصطفافات في البلاد، لم يراع المزاج العرسالي في الانتخابات بشكل كافٍ، وإن حرص في دورات انتخابية عدة على ترشيح أحد أبنائها عن المقعد السني في المنطقة.
ما زال العرسالي يقصد محيطه ليطبب أطفاله في غياب حتى مستوصف رسمي. لكن «العراسلة» بعفويتهم وطيبة ابناء الريف المتأصلة فيهم، نادراً ما يحاسبون. يقدمون ما يعتبرونه أحياناً حصتهم من «الواجب» سواء تجاه الوطن، أو الطائفة عند بعضهم، ولا يطالبون بحقوقهم.
بلدة متنوعة
عرسال تغيرت؟ يقول البعض انه لا يمكن تصنيف البلدة كلها في مكان واحد. ففي بلدة تنوعت انتماءات ابنائها السياسية على مر تاريخها، لا يمكن أن تصبح لوناً واحداً في لحظة.
حتى في عز تعاطف عرسال مع استشهاد الرئيس الحريري وانحيازها في العلن لقوى 14 آذار، كان فيها من يقرأ ما يحصل بواقعية الحريص على تاريخ البلدة وعلاقتها بجيرانها والمحيط.
ومع اندلاع الأحداث في سوريا على وقع الانقسامات السياسية والطائفية الحادة في لبنان، نجح المغالون في المراهنة على سقوط النظام السوري سريعاً، في تظهير صورة عرسالية «نافرة» في مغالاتها ضمن محيط محسوب على المعسكر الآخر. هنا خرج من يفرّق بين احتضان السوريين إنسانياً وبين المسلحين. صوت بقي خافتاً مع الماكينة السياسية والإعلامية التي حرصت على تموضع عرسال وفق هويتها المذهبية بالدرجة الأولى، مستفيدين من موقعها الجغرافي المتربع على ثلثي الحدود السورية في البقاع الشمالي.
وفي الواقع لم تأت تلك الصورة من فراغ. هناك في عرسال من «تاجر» بالأحداث السورية واستثمرها في السياسة والمال، كما يقول كثر من أبنائها. أريد لعرسال أن تغيّر في ميزان القوى المؤثرة في الأحداث السورية. أن تكون نافذة التسلح والكر والفر، وأن تلعب دور «بيضة القبان» في المعارك التي دارت رحاها في القصير وريفها من نافذتها الشمالية. ولأن لعرسال أكثر من نافذة على سوريا، كانت عين القوى اللاعبة على الساحة السورية مفتوحة أيضاً على دورها المؤثر في أحداث الشام وريفها. دور اتاحه لها إمساكها بالحدود المتصلة بمنطقة القلمون من قارة إلى راس المعرة الملاصقة لجرد نحلة جارة عرسال في الأعالي.
وعليه، وكما كانت عرسال الساحة الخلفية الآمنة للمقاتلين في القصير وريفها، صارت ظهر مقاتلي ريف الشام واستراحتهم. وتحت عنوان الاحتضان الإنساني الذي يجتمع معظم أهالي البلدة تحت مظلته في التعاطي مع الملف السوري، شهدت عرسال زحفاً سورياً لا يميز بين نازح ومقاتل ومسلح. شاء قدرها الناتج عن موقعها الجغرافي وسعة حدودها مع سوريا، والأهم هويتها المذهبية السنية، أن تتحول إلى أكثر الساحات اللبنانية سخونة، خصوصاً بعدما تعطل فتيل الدور الشمالي عبر وادي خالد، مع إمساك الجيش النظامي السوري بشريط القرى الممتد من بحيرة قطينا إلى جوسيه الخراب على حدود مشاريع القاع، ولاحقاً بمدينة القصير.
بيوتهم لـ«المظلومين»
كل هذا والدولة تغض الطرف عما يحصل. ساعة تحت ذريعة النأي بالنفس، وأخرى خوفاً من اتهامها بالضغط على أبناء هذه الطائفة أكثر من تلك. تُركت عرسال لمصيرها كما جميع المناطق اللبنانية. لكن النازحين في الجنوب والشمال والبقاع وبيروت وجبل لبنان جاؤوا كعائلات وأفراد من جميع الطوائف، بينما وفدوا إلى عرسال ككتلة مذهبية محددة ومحسوبة بشكل عام على المعارضة والمسلحين.
وعليه، تجد في عرسال اليوم السوريين الوافدين من القصير وريفها وبعض حمص، ومعهم نازحو القلمون وريف دمشق. نادراً ما ستجد في عرسال نازحاً ببطاقة دخول شرعية. قطع هؤلاء الجبال الوعرة في السلسلة الشرقية مستخدمين آليات «البيك آب» أو سيارات الدفع الرباعي، بينما وصلها كثيرون ومعظمهم من الأطفال والنساء سيراً على الأقدام لزمن يتجاوز اليوم بساعاته الأربع والعشرين.
وبعيداً عن حسابات المستثمرين في السياسة والمال وخططهم، فتح العراسلة بيوتهم لـ«المظلومين» كما اعتبروهم، وتعاطفوا معهم. قدمت المنازل بلا مقابل، استضافت العائلة العرسالية الواحدة عائلة أو عائلتين سورييتيّن أو أكثر. لم تفكر عرسال في عمر الأزمة السورية. صدّق بعض أهلها تصريحات من يؤيدون في السياسة ويزعمون العودة عبر مطار دمشق الدولي بعد سقوط النظام. ظنوا أن تضحياتهم مرهونة بمرحلة قصيرة من الزمن، في وقت اتّبع فيه مسؤولو دولتهم سياسة النعام مع ملف النازحين. دفنوا رؤوسهم في الرمل ولم يخرجوه إلا حين انتشر السوريون على كل شبر من لبنان.
ومع الوقت ضاقت المنازل بأهلها وبالضيوف، فانتشرت الخيم تؤوي من لم يجد سبيلاً إلى سقف اسمنتي يظلله. وانسجاماً مع القرار الرسمي بعدم انشاء مخيمات للنازحين، لم تضع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين معايير للخيم ولم توزعها. نصب السوريون ما تيسر من شوادر وخيم في كل بقعة أرض عرسالية استطاعوا إليها سبيلا.
استفاقت عرسال اليوم على اختـــــناقها. خمـــــسة عشر مخيماً سورياً حتى هذه اللحــــظة، والحبل على جرار التطورات الميدانية في القلــمون ومعاركها.
يقول مختار عرسال عبد الحميد عز الدين إن عدد السوريين فاق الثمانين ألفاً في البلدة التي تعاني خللا في بناها التحتية اساساً. يستند عز الدين في إحصاءاته إلى أرقام المنظمات الإغاثية، ليتوقف عند العبء الاقتصادي والإنساني والخدماتي للضيوف. يقول المختار إن العامل السوري يأخذ مكان العامل العرسالي في المناشر والمقالع، وفي المهن والحرف. ينافسون العراسلة حتى في المحال والمطاعم، وكذلك على «بسطات» الباعة الجوّالين.
كل هذا والعرسالي يتفرج على ضيفه الذي شرّع له أبوابه واستقبله في عقر داره. يخرج السوري من منزل مضيفه إلى منظمة الإغاثة ويعود بحصة غذائية أو بقسيمة مازوت. يسلمها إلى عائلته ليخرج إلى العمل كمياوم في قطاعات الحجر والبناء والتمديدات الصحية أو الدهان وحتى الزراعة. منافسة تكاد تتسبب أحياناً بنزاعات في ظل «عدم وضع الدولة اللبنانية قواعد ثابتة وواضحة في التعامل مع العمالة والاستثمارات السورية»، كما يقول خالد البريدي.
عن أي دولة نتحدث؟
يوجد في عرسال مخفر واحد لقوى الأمن الداخلي يقتصر عديده على خمسة أو ستة من العناصر. لا يخرج هؤلاء من مركز عملهم إلا لتبديل مهماتهم ومناوباتهم. تزنر الحواجز العسكرية عرسال لتتمركز على «دايرها». تسعة حواجز للجيش اللبناني ومع ذلك تنشط خطوط التهريب عبر الجرود، ويدخل المقاتلون ويخرجون ساعة يشاؤون.
يحمل العراسلة هم أمن بلدتهم. أمن مرهون بمزاج «الضيوف» الذين اصبحوا أكثرية يصعب على البلدة ضبطها بكل ما تحمل الكلمة من معنى. رئيس البلدية، علي الحجيري، نفسه، يفكر قبل أن يجيب عن سؤال إن كان يعتقد أن عرسال تملك قرارها وأمنها. يشرد الرجل ثم يقول «نعم، لقد منعنا الظهور المسلح في البلدة، واليوم لم نعد نشاهد ســـلاحاً». السلاح الذي اختفى من الشارع ولم يعد علنياً يتمركز على ما يبدو في المنازل والخيم.
يعترف الحجيري بأنه لا يسيطر على جرد عرسال. «هل أمن الجرود من مسؤولية عرسال وبلديتها؟»، يسأل الرجل الذي اشتهر بمغالاته في الوقوف إلى جانب المعارضة السورية والمقاتلين هناك.
يقول إن حواجز الجيش اللبناني التي تحيط بعرسال تربكه أكثر مما تريح البلدة. «ماذا سيقولون لو جاء مسلحون من الجرود وهاجموا أحد الحواجز؟». يسأل ليجيب نفسه «طبعاً سيقولون تمت مهاجمة الجيش في عرسال».
والحق يقال، لا سلاح ظاهراً في شوارع عرسال، ولا على جوانب الطرق التي تخترق الجرد نحو الداخل السوري. لكن روايات اهلها تقول بظهوره الفوري أكثر من مرة لدى وقوع مشاكل بين العراسلة والسوريين وحتى بين السوريين أنفسهم. سلاح يبدو كالجمر تحت الرماد، جاهز، لكنه مغطى بورقة التوت.
يقول أهالي عرسال إنك تجد عرسالياً من بين كل ستة اشخاص يعبرون الطريق، أما الباقون فسوريون. من بين كل أربع آليات سيارة ستجد آلية واحدة عرسالية. آليات من غير لوحات تسجيل، قوامها الغالب سيارات «البيك آب» والدفع الرباعي. بعضها يحمل لوحة «تكساس» أو «كاليفورنيا» أو «لاس فيغاس». وبعضها، وهي كثيرة، لا تحمل أي لوحـــــة تدل على هويتها. هنا تتذكر السوق الرائجة لسرقة سيارات «البيك آب» في المنطقة، خصوصاً أن هيئة من يقودونها لا تختلف كثيراً عن بعض الذين تشاهدهم على شاشات التلفزة من المسلحين.
القلق من المخاطر
وجود المسلحين في عرسال ليس سراً. خصصت تركيا مشفى ميدانياً خاصاً لعلاج المصابين والجرحي المنقولين من الداخل السوري. ليس سراً أولئك الذين عبروا من عرسال نحو مستشفيات الشمال عبر الهرمل. وليست تلك الأعداد من مبتوري الأعضاء من بين السوريين بعرسال إلا نتاج الحرب الدائرة في الجارة السورية.
يستشعر عبد العزيز الفليطي «مخاطر قادمة لا محالة». فـ«لا سلطة رسمية ولا جهة محددة تدير ملف النازحين والوجود السوري في البلدة». يصر الفليطي ومعه خالد البريدي والمختار عز الدين واستاذ المدرسة محمد حسين الفليطي ومحمود الحجيري على موقف عرسال وأهلها الإنساني. يقولون أن بلدتهم فتحت ذراعيها للسوريين لأسباب إنسانية: «العراسلة يرفضون الظلم من أي جهة كانت». لكن عرسال لم تنخرط في الأحداث السورية فعلياً كمقدرات بشرية. يتحدى «الشباب» ان يكون هناك شاب عرسالي واحد قضى وهو يحارب في سوريا.
يصر الفليطي وبريدي والحجيري وعز الدين على حرص أبناء عرسال على العلاقة مع جيرانهم «نحن ندير وجهنا إلى اهلنا في محيطنا بالدرجة الأولى، نتقاسم معهم الحرمان المزمن». يطالب هؤلاء الدولة والقوى الفعالة في المنطقة بأن تنظر إلى عرسال ككل وليس إلى بعض من استفاد من الموجة السورية. يطلبون منهم ان يسألوا ماذا تريد عرسال، كل عرسال، وليس «أقلية هوجاء استفردت بالشارع وسط جو مفعم بالحقن المذهبي الذي مهد الأرضية المناسبة لعزل البلدة عن محيطها وإلصاق التهم بها». ويصرون على قراءة التاريخ، تاريخ عرسال وأهلها الذين كانوا رواداً في العروبة والوطنية.
بيع العقارات
إلى جانب أمنها، يحمل الفليطي وبريدي والمختار هم هوية عرسال نفسها. مع ميل الأهالي إلى تأجير بيوتهم مع طول عمر الأزمة السورية وانعدام افق الحلول القريبة، ظهرت في عرسال ظاهرة يسمونها بـ«الخطيرة». بدأ السوريون شراء العقارات خصوصاً مع مجيء النازحين من القلمون وعلى رأسهم أهالي قارة المعروفون بوضعهم المادي الميسور. اشترى السوريون ما لا يقل عن 25 منزلاً حتى الآن وبأسعار تفوق السعر الأصلي بثلاثة اضعاف. يصف خالد البريدي بيع المنازل العرسالية بـ«الجريمة الموصوفة»، ليطالب بوقفها فوراً. البيع لم يقتصر على المنازل فقط بل يطال الأراضي. وها هم السوريون اشتروا عقاراً كاملاً وأخذوا يبنون عليه بيوتاً لهم.
تململ عرسالي دفع البعض، وفق ما أكد «الشباب» الى التفكير في شراء شقق في بيروت استعداداً لترك البلدة في حال ساءت الأحوال أكثر. كل هذا ولم نتحدث عن الذيول الاجتماعية للنزوح، وعن بعض الظواهر السلوكية غير المحببة والتي لا يرغب العراسلة في إثارتها.
ومن ضمن الآثار الإجتماعية للنازحين، تقول إحدى النساء العرساليات انه تم إحصاء نحو عشرين زفافاً خلال شهر ونصف الشهر في البلدة. كان هناك عشرون عروساً سورية في مقابل عروسين عرساليتين فقط. لم تقتصر ظاهرة الزواج من السوريات على بعض المتزوجين من أبناء عرسال «بل أصبح الشباب العراسلة يتزوجون بسوريات أيضاً في زواجهم الأول»، فالزواج بعروس سورية «لا يكلف كثيراً»، كما تقول.
عرسال، بلدة الأربعين ألف نسمة، تنوء تحت عبء احتضان نحو ثمانين ألف نازح سوري (سعدى علوه)
تعليقات: