قراءة في كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز

المؤرخ والأديب والمربي غالب حسن سليقه
المؤرخ والأديب والمربي غالب حسن سليقه


حقاً يقف القارىء مأخوذاً ومندهشاً من اكتناز الوثائق والوقائع عن المظاهر الثقافية التي تضمنها كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز، وكيف صاغها المؤلف بأسلوب تاريخي رشيق، وسرد يستحوذ فكر القارىء ويشده إليها مرحلة مرحلة، كيف لا والصورة واضحة وصادقة عن التاريخ الثقافي والاجتماعي، وربطهما بين تلك المظاهر الثقافية وتاريخ الأحداث التي مرّ بها المجتمع التوحيدي وتجاربهم. تلك المراحل التي ترتبط وثيقاً ومباشراً بحياة المجموعة مع الجماعة المحيطة لسكناهم ومن شتى المذاهب والمشارب، لتجمعهم المدلولات والأبعاد ليثبت بالدليل القاطع أن الإرث الاجتماعي مشترك ومتواصل كون التجاور والسكن والقرية واحدة، والمنطقة متداخلة.

يقسّم الكاتب كتابه إلى تسعة أبواب وملاحقه، ونماذج مختارة.

الباب الأول: من هم الدروز؟

يدين الموحدين الدروز بالإسلام ديناً، وبالتوحيد مذهباً وعقيدة. مذهبهم ليس ديناً تبشيرياً ولا تصوفاً مطلقاً أو رهبنة، بل هو فرعٌ من فروع الدين الإسلامي. برز في الإسلام وترعرع مع الشيعة وتبلور في الاسماعيلية، وبدت معالمه وانضمت في مذهب التوحيد الفاطمي، ليستخلص القول أن المذهب التوحيدي على اجتهادات لم تأخذ بها بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، لكنه بالرغم من ذلك متفرع من الدين الإسلامي وأن مصادر التشريع تنحصر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم اجتهادات الأئمة وكبار دعاة المذهب التوحيدي ومنظمي أصوله وفروعه.

ثم ينتقل الكاتب في هذا الباب إلى لمحة تاريخية عن مراحل الدعوة التوحيدية منذ بدايتها عام 408ه - حتى العام 435 ه وكيف لقي مذهب التوحيد عند قيامه من يعارضه وحتى حاول القضاء عليه. إذ تعرّض أتباعه للمحن على يد الخليفة الفاطمي الظاهر وعمّاله في بلاد الشام، ومنهم نصر بن صالح المرواسي وهو ما عرف بمحنة إنطاكية غير أنه في جبل لبنان تمكنت العشائر التنوخية من حماية نفسها - إلى أن يصل إلى أمكان تواجد الدروز حالياً وعددهم، فيقول في سوريا نحو 600,000 وفي لبنان نحو 350,000 وفي فلسطين نحو 100,000، وفي الأردن والجولان نحو 40,000 يضاف إليهم عدد لم يجر احصاؤه في المهاجر وجميعهم يقدّرون بأكثر من مليون نسمة.

ثم يكمل ليقول أن الموحدين الدروز، بغض النظر عن توزعهم الجغرافي بهويتهم الثقافية والدينية وخصوصيتهم المذهبية، ويقاومون بالقدر عينه كل الطروحات الانفصالية أو التقسيمية، مؤكدين ما قاله أحد أبرز زعمائهم كمال جنبلاط بأن لا تعارض بين انتمائهم العربي العميق وبين هويتهم اللبنانية الوطنية، وعلى الرغم من كونهم أقلّية مذهبية وطائفية لم يشعروا يوماً بالعقدة الأقلويّة على المستوى الوطني أو القومي فقد اعتبروا أنفسهم دوماً جزءاً من الأكثرية العربية والإسلامية مميزين بين شخصيتهم الوطنية والقومية، وهذا ما يؤكد خصوصيتهم واندماجهم في آن معاً.

الباب الثاني:

يشير إلى المظاهر الثقافية المتعلقة بالزمان، حيث يعتبر أن دورة الحياة البشرية في الإسلام كما هي في كل الأديان، إذ لا ينفصل الإنسان عن المعتقد الديني وطقوسه وارتباطه الزمني وحركة التطور والارتقاء البشري في كل يوم وكل أسبوع وكل دورة سنوية، شارحاً التقويمان القمري والشمسي، فالقمري مدته 354يوماً و8 ساعات، والشمسي مدته 365يوماً و6 ساعات، ثم منتقلاً إلى تكريم شهر رمضان ويوم الجمعة من كل أسبوع وقدسيته في المذاهب الإسلامية لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة - الآية 9، إلى أن ينتهي بشرحٍ دقيق عن عيد الأضحى وعشوره إذ يعتبر الموحدون الدروز أن الإشارة الواردة في القرآن الكريم إلى قدسية الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة قسماً بها وبالفجر والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر سورة الفجر تدل هذه على أهمية هذه الأيام ولياليها حيث يكون المسلمون فيها حجاجاً إلى بيت الله الحرام، وهي ما بين الأول والعاشر من شهر ذي الحجة، وكيف تدبّ الحركة والسعي في المجتمعات التوحيدية نحو الخلوات مع وصف دقيق لاجتماعات الموحدين في خلواتهم وكيف ينتظم الشيوخ والشباب والفتيان في القاعة الكبرى للمجلس أو الخلوة تجاورها قاعة مماثلة يتجمعن بها النسوة بينهما فاصل، حيث لا تسمع سوى الأصوات، فتتلى الآيات البيّنات والخطب والمواعظ، وتنشد الأناشيد الروحية في مدح الرسول والأنبياء والأولياء. وصباح العيد، وبعد ليالي العشر، يستقيظ الناس للصلاة والتعبير عن الفرح والشكر للخالق، وتقام صلاة العيد وهي موحدة عند المسلمين عامة.

الباب الثالث: المظاهر الثقافية

يُسهب المؤلف في هذا الباب في وصف الخلوات والجوامع وأماكن العبادة المتفرقة هنا وهناك، فمن الأماكن التي يتواجد بها الموحدون مبتدءاً بالمسجد الحرام في مكة ثم المسجد الأقصى في القدس الشريف، وهما قبلتا المسلمين، وثالثهما مسجد الرسول، أي قبر الرسول محمد صلعم في المدينة المنورة. ثم وصف مسهب لخلوات البياضة وتاريخ إنشائها، كذلك المقامات الدينية في لبنان وسوريا وفلسطين، إلى أن ينتهي بوصف حسّي عن الخلوة بصورة عامة فيقول: الخلوة بيت العبادة عند الموحدين الدروز وهي مكان متواضع خالٍ من كل

زينة وزخرف وترف، يجلس فيها الأجاويد وعلى الأرض بكل بساطة ودون تكلف، يجد الطالبون فيها طلبهم ليحيوا فيها حياة روحية جميلة يُعمّقون أثناءها اطلاعهم وتأملاتهم الروحية.

لكن الكاتب لا يخلو في سرده التاريخي من بعض الأغلاط التاريخية، إذ يذكر المؤلف أن خلوة شبعا قد هدمها ابراهيم باشا عام 1832، والصحيح أنه تواجد في شبعا عام 1838 وأن مرافقه وقائد جيشه الجنرال الفرنسي سيف والذي عُرف بالجنرال سليمان باشا قد أخذ الكتب المقدسة الدرزية منها ونقلها إلى مكتبات أوروبا كباريس ولندن، كما يشير إلى ذلك المؤرخ فيليب حتّي في تاريخه لبنان في التاريخ.

الباب الرابع:

وهو ما يتعلق بالموت والحياة، إذ يقول تبدأ حياة الإنسان منذ لحظة ولادته بعد أن يكوّن جنيناً من أب وأم، وكان ثمرة زواجهما فيحسبانه بركة من الله تعالى ويتعهدانه بالرعاية والعناية والتربية، أما تربية الولد عند الموحدين فقليلاً ما تختلف عن تربيته بحسب المفهوم الإسلامي وما تفرضه معظم الأديان، وتقتضي البدء بتلقينه أصول ومبادىء الدين الإسلامي وتعاليم المذهب التوحيدي. والزواج عند الموحدين هو سنة من سنن الأنبياء وِشرعة من شرائع البقاء وصون عن الفحشاء ووقاية من رب الأرض والسماء. والزواج في الدين الإسلامي لا يُسمى مقدساً كما هو الحال في الدين المسيحي وكذلك عند الموحدين الدروز، إذ هو عقد مبنيٌّ على الإعلان والوضوح والقبول على قاعدة مفاهيم الشرف والدعم والحقوق المتوازية بين الرجال والنساء في القبول، ولا يجوز فيه الإجبار أو الإكراه لأي من الفريقين، أي الرجل والمرأة. وعلى الموحد عند زواجه الاجتهاد في أن يختار زوجة ديّنة رصينة طيبة الأصل أي التربية، كذلك النسب لما لذلك من أثر عظيم في النسل وتربية الأولاد وصلاحهم وحلالهم.

أما الموت فهو مصير كل مخلوق حيّ وهو عدلٌ ورحمة من الله تعالى، ومصير الروح مرتبط بإرادة الخالق رب العالمين لا بإرادة سواه، ولا يعرف مصيرها إلاّه لقوله تعالى ويسألونك عن الروح قُل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً سورة الإسراء. ومن مراسم الدفن يتم نقل الميت إلى المقبرة حيث يسير المشايخ أمام النعش وهم يهللون بقولهم : لا إله إلا الله دائم باقي وجه الله - لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعند الوصول إلى موضع الصلاة، توضع الجنازة في الوسط حيث يكون وجه المتوفي موجهاً نحو الشرق ويُغطى التابوت بغطاء أبيض وتكتب عليه عبارة الله حق . ثم يتقدم أحد المشايخ من معارف الفقيد للشهادة والتعريف بحسناته وفضائله ومكارم أخلاقه، والشهادة بحد ذاتها عند الموحدين أمانة وصادقة، حيث تأديتها بلا زيادة أو نقصان، ثم يدعو له بالرحمة طالباً ذلك من المشايخ والحضور، بعدها يتقدم المصلّين بمحاذاة صدر الميت مستقبلاً القبلة نحو البيت الحرام.

الباب الخامس:

وهو شرح عن المؤسسات الدينية والمرجعية ... ابتداء من الزعامات السياسية إلى المرجعيات الروحية وشيوخ المناطق والقرى وصولاً إلى مشيخة العقل محدداً دوره كما نصّ قانون 2006 في المادة الرابعة عن دور شيخ العقل وصلاحياته: يمثل شيخ العقل طائفة الموحدين الدروز في الأمور الدينية لدى السلطات العامة والطوائف الأخرى ويتولى رعاية شؤونها الروحية ومصالحها الدينية والاجتماعية ويستعين بهيئة روحية استشارية من ستة مشايخ الدين المعروفين بعلمهم الديني ويعيّنهم بذاته.

أما المجلس المذهبي فقد أنشأ بموجب القانون الصادر عام 12/6/2006 عن مجلس النواب اللبناني لتنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز حسب ما نصّت عليه المادة السابعة من الفصل الأول من الباب الثاني بالقول ينشأ لطائفة الموحدين الدروز في الجمهورية اللبنانية مجلس يُسمّى المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، ويتولى إدارة وشؤون الطائفة الزمنية والاجتماعية والمالية ومصالحها الدينية، ومهامه : إنتخاب شيخ العقل والإشراف على الأوقاف الدرزية، ويتألف من أعضاء منتخبين عن جميع المناطق الدرزية بالإضافة للأعضاء الدائمين منهم: شيخ العقل - الوزراء والنواب الحاليون والسابقون - قضاة المذهب الدرزي - العضوان الدرزيان اللذان يشغلان عضوية المجلس الدستوري وعضوية مجلس القضاء الأعلى. أما القضاء المذهبي الدرزي في الوقت الحاضر فهو يخضع لأحكام تنظيمية بدأت بقانون عام 1960.

الباب السابع:

وهو يبحث في أصول وترتيب المجتمع التوحيدي، إذ يقول أن مجتمع الموحدين الدروز ينقسم إلى فئتين أساسيتين: فئة العقّال أو الأجاويد وهم الذين يعيشون حياة روحية إذ يلازمون الفرائض الدينية ويلمّون بأحكام المذهب وعلومه وحقائقه، وإن بدرجات متفاوتة، ثم يستطرد بذكر العديد من المشايخ والقادة الروحيين الذين كان لهم الأثر الكبير في تماسك وإعلاء شأن الموحدين... كالأمير سيف الدين التنوخي والشيخين حسن ويوسف العقيلي، والشيخ حسن الدمشقي الشافعي المعروف بالميمساني، والشيخ يوسف الكفرقوقي، والشيخ ابراهيم الهجري، والشيخ علي الفارس، والشيخ أمين طريف بالإضافة لكبير مشايخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا..

ثم ينتقل إلى المرأة الدرزية في المجتمع التوحيدي، ويذكر منهن: الست نسب والدة الأمير فخرالدين الثاني الكبير، والست حبوس أرسلان، والست نايفه جنبلاط شمس من حاصبيا، والست نظيرة جنبلاط سيدة المختارة في عصرها.

الباب الثامن:

يصف هذا الباب مظاهر الفن والأدب عند الموحدين ليذكر أسماء بعض المبدعين والفنانين والأدباء من أبناء الطائفة والعادات المتوارثة منها ما بقي ومنها ما اختفى.

الخلاصة:

خصوصية واندماج - ثم بعض الملاحق والنماذج المختارة منها صك الوصية عند الموحدين وأهميتها في المذهب التوحيدي وشرعيتها. مقتطفات من أقوال المشايخ والثقاة، ومنها رواية عن ابن الكسيح في دمشق، أنه سأل الأمير السيد عبدالله التنوخي عمّا إذا كان في بلادكم إسلام وكيف تكون الصلاة عندهم. فأجاب الأمير السيد: أقوم بالأمر وأمشي بالسكينة وأدخل بالقصد وأكبّر بالتعظيم وأقرأ بالتوسل وأركع بالخشوع وأسجد بالخضوع وأسلّم بالنية وأتمثّل الجنة عن يميني والنار عن شمالي، وأقول في نفسي: إن الله حاضر معي وإني لن أصلي صلاة بعدها. ثم يروون بعض الأشعار والقصائد التي تكرّم الأخيار والأبرار.

وأخيراً شهادات بعض المفكرين والأدباء والعلماء عن الموحدين الدروز ومنها قول لشيخ الإسلام الأكبر شيخ الأزهر محمود شلتوت إذ يقول: الموحدون الدروز مذهب خاص من المذاهب الإسلامية المتعددة وهو كجميع المذاهب الأخرى وليد اجتهادات فقهية وفلسفية في أصول الإسلام. والمتتبع لتاريخ مذهب الموحدين يرى أنه يُمثّل مدرسة فكرية خاصة من مدارس الفكر الإسلامي.

خلاصة القول أنه بحث جدّي ورصين ومنطقي في خصوصية الموحدين الدروز وفي مواقعهم الدينية والثقافية والاجتماعية والتي حافظوا عليها طيلة قرون.

وهنا لا يسعني أيها المؤلف الكريم سوى القول : إنكم قد وفقتم إلى أقصى حدود المعرفة في تبيان وإظهار الكثير الكثير مما لا يعرفه البعض عن التوحيد ومسالكه وقيمه ومعتقداته. وإن هذا البحث، وإن يكن في إطار رسالة جامعية لنيل شهادة الماجستير، لكنه في الحقيقة أصبح مرجعاً تاريخياً واقعياً يليق أن يتصدر كل مكتبة ليصح بكم القول:إن صاحب البيت أدرى بما فيه.

..

* غالب سليقه - كاتب ومؤرخ (كان مديراً لمدرسة الفرديس الرسمية لمدة 44 عاماً - عضو في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز (عن منطقة حاصبيا) ومقرر اللجنة الثقافية فيها).

يقف القارىء مأخوذاً ومندهشاً من اكتناز الوثائق والوقائع عن المظاهر الثقافية التي تضمنها كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز، وكي
يقف القارىء مأخوذاً ومندهشاً من اكتناز الوثائق والوقائع عن المظاهر الثقافية التي تضمنها كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز، وكي


تعليقات: