جفاف مجاري الليطاني في البقاع الأوسط (سامر الحسيني)
"أم الغيض"
عماد الدين رائف
طقس كانون ربيعيٌ دافئ "غير مسبوق"، تحتبس فيه المتساقطات. تتشقق الأرض التي تنتظر الغيث وتهزل الأنهر حتى تكاد تضمحل. ثلوج كانون وصقيعه صارا جزءاً من الذاكرة، يزينان بعض الأمثال الشعبية والمأثورات.
ذلك "غضب".
كثيرون يعتقدون أن البشر ساءت أفعالهم إلى درجة لم تعد تحتملها السماء فغضبت، وحبست المطر.
يروي الأجداد، كما دوّن عيسى اسكندر المعلوف في "لبنانه" ولحد خاطر في "عاداته"، أنهم حين كانوا ينتظرون المطر ولا يأتيهم، يجمعون أطفالهم في موكب ويخرجون إلى الساحات والطرق كل عشية حاملين تمثالاً مؤلفاً من خشبتين متعارضتين. يغطون الخشبتين بملابس فتاة، ويطوفون في الأزقة منشدين عدداً من الأهازيج، ينادون فيها إلهة يسمونها "أم الغيض" أن تغيثهم بالغيث ليحيي زرع آبائهم.
الآباء كانوا يرون أن دعاء أطفالهم لا يُردّ. وذلك لطهارتهم وصفائهم. فيتنحى الآباء عنهم إلى جانبي الطريق، يحرصون على انتظام صفوفهم وراء "أم الغيض". ويحضونهم على رفع الصوت في إنشادهم كي تسمعهم من سمائها. "يا أم الغيض غيضينا/ شتي في أراضينا/ شتي في أراضي الزرع/ تا يكبر وينشينا". يدورون ويدورون حتى الإرهاق.
لعلنا بحاجة إلى استسقاء مماثل يستنزل المطر.. ليروي الزرع. لتنهمر الثلوج مكللة قمماً تنتظرها.
أو لعل السماء لم تغضب. بل تستمع إلى "أهازيج" حزينة أخرى. نحيبٌ يلوّنه الجوع، لا يحتاج إلى صقيع "أم الغيض"، كي يخترق حُجب السماء.
لعل سماءنا ترأف في عزّ كانون بأطفال أطهار آخرين، نزحوا قسراً عن ديارهم، ورمتهم الأقدار بذل اللجوء، يلتحفون خيام نزوحهم.. ويخشون المطر.
* عماد الدين رائف
------------ ------------ ------------
احتباس الأمطار.. غير مسبوق
مخاوف من انخفاض الانتاج الزراعي
سامر الحسيني
"يستمر احتباس الأمطار حتى أواخر كانون الثاني"، بهذه العبارة تلخص "مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية" في تل عمارة الواقع المناخي الحالي في لبنان، وتشير إلى "تأثر لبنان بطقس دافئ ربيعي غير مسبوق وغير اعتيادي لمثل هذه الفترة من السنة المطرية".
لا أمطار ولا منخفضات مطرية ولا ثلجية أقله حتى أواخر كانون الثاني الجاري، وفق مرصد المصلحة في تل عمارة، الذي لا يدوّن في سجلاته المناخية احتباساً للمطر كالذي يشهده اليوم إن لجهة توقيته أو مدته التي تُعدُّ طويلة.
منذ انحسار العاصفة "ألكسا" يتأثر لبنان برياح شرقية دافئة، من المتوقع أن تؤدي إلى ارتفاع جديد في درجات الحرارة خلال الأيام المقبلة، وفق المدير العام للمصلحة ميشال إفرام الذي يتحدث لـ"لسفير" عن "سيطرة رياح شرقية تبعد المنخفظات المطرية والثلجية المقبلة إلى لبنان بحراً أو عبر اليونان وتركيا".
ويشير إلى أنّ "الارتفاع الذي تشهده درجات الحرارة راهناً غير ملحوظ في السنوات السابقة وغير مدونة أيضاً في سجلات المصلحة لهذه الفترة من السنة المطرية".
ولم تصل كمية الهطولات المطرية، وفق أرقام المصلحة، إلى أكثر من 140 ميلليمترا في رياق في حين كانت أرقام السنة الماضية لهذه الفترة تتجاوز 370 ميلليمتراً مقابل معدل تصاعدي عام يبلغ لهذه الفترة 340 ميلليمترا، ما يعني، وفق إفرام، أنّ الهطولات المطرية لهذه السنة لم تصل إلى حدود 30 في المئة من المعدل السنوي المطلوب.
ولم تسجل الهطولات المطرية في بيروت سوى 204 ميلليمتراً مقابل 500 ميلليمتر للفترة نفسها من السنة الماضية. وفي الجنوب تبلغ المتساقطات المطرية المتراكمة لهذه السنة 123 ميلليمترا مقابل 300 ميلليمتر للفترة نفسها من السنة الماضية. وينسحب التراجع في الهطولات المطرية على منطقة الشمال التي بلغت هطولاتها المطرية هذه السنة 232 ميلليمتراً ويقابلها للفترة نفسها من العام الماضي 450 ميلليمتراً".
يجزم افرام أنّ "الأيام القليلة المقبلة ستجبر المزارعين على نفض الغبار عن قساطل الري وإعادة مدها في حقولهم، ولا سيما في تلك المزروعة بالحبوب، التي تعتمد على الأمطار فحسب. فبسبب الاحتباس المطري فإن المزارعين سيضطرون إلى القيام بما يعرف في المفردات الزراعية بالري التكميلي".
خسائر الانحباس المطري تطال الثروات المائية والنباتية والحيوانية، فاستعمال المياه الجوفية سيبدأ قريباً، وهو استعمال مبكر لهذه المياه وغير مسبوق لمثل هذه الفترة من السنة، ما يكبد المزارعين أعباء مالية إضافية جراء تحول زراعاتهم الـ"بعلية" إلى "مروية"، وخصوصاً القمح والشعير. وهذا التحول سينتج عنه أكلاف إنتاجية إضافية جراء سحب المياه عبر غطاسات تعمل على الوقود والكهرباء، عدا عن الاستنزاف المبكر للمياه الجوفية. كما أن نوعية الانتاج الزراعي وكميته ستتأثران سلباً هذا العام".
ما يتخوف منه افرام أن يؤدي الطقس الدافئ في لبنان إلى تفتح مبكر لأزهار الأشجار المثمرة، ما سيؤدي لاحقاً إلى تضرر كبير في هذه الاشجار جراء أي موجة باردة أو أمطار غزيرة وثلوج، ما يعني أنّ الانتاج الزراعي سينخفض هذه السنة.
وستطال الخسائر أيضاً السياحة الشتوية، وهذا ما يشكو منه أصحاب المنتجعات السياحية في المناطق الجبلية العالية التي لم ينطلق فيها بعد موسم التزلج.
كان من المفترض، وفق معدل كميات الهطولات المطرية، أن يحمل كانون الأول الماضي متساقطات مطرية تتجاوز الـ200 ميلليمتر في حين لم تصل كمية الهطولات فيه إلى حدود 80 ميلليمتراً. والأخطر من ذلك أنّ الشهر الجاري كان يفترض أن يضيف على السنة المطرية أقله 200 ميلليمتر، ولكن أرقامه المائية لم تتجاوز الأربع ميلليمترات.
هذا التراجع الكبير في كمية الهطولات المطرية، يبدو واضحاً في مجاري الأنهر والروافد المائية التي ما زالت جافة حتى اليوم. والأخطر أنّ البحيرات المائية السطحية تتجه إلى الجفاف. فبحيرة القرعون في أدنى مستوياتها من التخزين المائي الذي لم يصل إلى حدود 40 مليون متر مكعب، علماً أنّ بحيرة القرعون كانت تختزن في مثل هذه الفترة من السنة الماضية أكثر من 150 مليون متر مكعب من المياه.
ويلفت افرام إلى تلقيه أسئلة واتصالات كثيرة من مزارعين في شأن الأحوال المناخية. وتشير معلومات وردت إلى المصلحة إلى "ظاهرة جفاف بعض البحيرات المائية مثل بحيرة الكواشرة في عكار. كذلك جفت مستنقعات عميق المائية، وهذا سيؤدي إلى أضرار كبيرة في المياه الجوفية، وفي الثروة المائية والحيوانية والنباتية".
* سامر الحسيني
----------- ------------- ------------
انتكاسة المواسم
نقولا أبو رجيلي
يتردّد صدى القلق من كارثة زراعية في أرياف لبنان شمالاً وبقاعاً وجنوباً. الجفاف يقضي على مواسم القمح وعلى الأشجار المثمرة. مصدر القلق ناتج من التبدل المناخي الذي يؤدي إلى تفاوت درجات الحرارة بين الليل والنهار وإلى شحّ الأمطار.
البيوت البلاستيكية وحدها ليست متضرّرة حكماً من تبدلات درجات الحرارة بين الليل والنهار. فالكارثة مقبلة إذا استمر الوضع على ما هو عليه حتى نهاية الشهر الجاري ومطلع شباط. بعض بوادرها ظهر أمراضاً فطرية على الأشجار المثمرة، وهو أمر غير معتاد في مثل هذه الأيام التي كانت تتميّز ببرد شديد يرافقه جليد قاس يسهمان في موت الحشرات والفطريات الضارة. كان المزارعون يردّدون مثالاً شائعاً عن كون «سنة الملّاح (أي الجليد) هي سنة الفلّاح». لكن مشكلة المزارعين هذه الأيام، أن الطقس دافئ نهاراً وبارد جداً ليلاً. هذا التغيّر المفاجئ في الحرارة يقضي على البراعم التي يرتقب أن تتفتح مع بداية فصل الربيع. أما الجفاف، فقد أصاب القمح الذي بات يحتاج إلى ري. مربو الماعز كانوا قد نقلوا مواشيهم إلى مناطق الساحل، فتبيّن لهم أن الأرض لم تنتج مراعي طبيعية وأن حاجة القطيع إلى العلف ضرورية. النحالون في عزّ الأزمة أيضاً، فالزهر المنتظر من الليمون في هذا الموسم لم يظهر بعد... كذلك أصيب أصحاب الشتول والأغراس الزراعية بالكساد. غالبيتهم فضّلوا عدم شراء شتول وأغراس جديدة من الأشجار المثمرة، خشية أن تذبل وتموت بسبب انحباس المطر. أسعار شتول الخوخ والمشمش والجنارك والدراق وسواها تراجع من 4 آلاف ليرة للغرسة الواحدة، إلى ألفي ليرة فقط. ومصير غالبية هذه الشتول هو الموت، وخصوصاً تلك التي تعتمد على مياه الأمطار.
مزارعو البقاع قلقون من انحباس المطر لأنه يؤدي إلى تلف بذور المزروعات الشتويّة، وبالأخص حبوب القمح والشعير المزروعة في الأراضي البعليّة. فمنذ انحسار العاصفة «أليكسا» ينتظر المزارعون بفارغ الصبر هطل الأمطار في شهر كانون الثاني. كان هذا الشهر «فحل الشتي».
كمية المتساقطات في البقاع لا تزيد نسبتها على 15% من المعدّل العام. «طالع سيئ لا يبشّر بموسم زراعي جيد»، هذا هو توصيف رئيس نقابة المزارعين في البقاع إبراهيم الترشيشي. الرجل يؤكد أن تقلبات المناخ من خلال ارتفاع درجات الحرارة نهاراً وانخفاضها ليلاً، وتدنيها إلى ما دون الصفر عند الفجر ومع ساعات الصباح الأولى، عوامل لا تساعد في نمو النبات نمواً طبيعياً، وبالتالي ستؤدي إلى تعرض نسبة كبيرة منها للتلف، وبالأخص تلك التي باشر المزارعون بريّها في أوقات مبكّرة خلافاً للعادة. كل هذا الوضع يرتّب أكلافاً إضافية على المزارعين.
شحّ الأمطار يؤدي إلى نقص في مخزون المياه الجوفيّة التي تعدّ مصدراً رئيسياً لاستمرار ريّ المزروعات الصيفيّة. ويؤكد الترشيشي أن قلّة المتساقطات وتقلبات الطقس، قضيا على نسبة 80% من مزروعات البصل، وثمة مخاوف من أن ينسحب ذلك على مزروعات القمح والشعير في الأراضي البعليّة، موضحاً أن المساحات المزروعة بالقمح في البقاع تقدّر بنحو 125 ألف دونم تروى غالبيتها بمياه الأنهر والأبار الارتوازية.
أكثر ما يزيد من مخاوف الفلاحين، هو التأثيرات السلبيّة على الأشجار البعليّة، وما قد يسببه الجفاف من تراجع نموها، وإضعاف قدرتها على إنضاج ثمارها طبيعياً جراء ارتفاع نسبة الملوحة في التربة.
لا يخفي المزارع يوسف الدغيدي تخوّفه من أن يؤدي انحباس المطر إلى يباس نصوب الأشجار الجديدة التي غرسها قبل نحو شهر، وهذا ما دفعه إلى تزويد هذه النصوب بكميات قليلة من المياه تساعد في ترطيب التربة حول الجذوع، مستخدماً لهذه الغاية صهريجاً للمياه يجرّه بواسطة جراره الزراعي، ويقول: «ما كان ينقصنا هو تكبّد مصاريف إضافيّة لري الأشجار والمزروعات الشتويّة، لكن رغم ذلك ننتظر خير السماء في الأيام المقبلة».
في أحد الحقول المزروعة بنباتات البازيلا، ينهمك المزارع أحمد الخطيب بتمديد قساطل المياه «البخاخات» التي توزع المياه دائرياً بواسطة مضخات مخصّصة لهذه الغاية «انقطاع الأمطار طوال شهر ونصف لم يكن بالحسبان، وإذا بقي الوضع كذلك فسنضطر الى دفع مصاريف مضاعفة للحفاظ على سلامة الحبوب تحت التربة. نتخوّف من أن يسبب الصقيع ليلاً وارتفاع الحرارة نهاراً، القضاء على النباتات بعد نموّها فوق التربة».
كلام الخطيب يؤكده جاره إيلي نبهان، الذي كان قد وزّع كميات من السماد العضوي على بستانه المزروع بأشجار الدرّاق والخوخ «فإذا استمر انحباس المطر سأضطر الى استئجار عمال لخلط التربة بالسماد العضوي، لأن الأخير يفقد فعّاليته في حال تعرضه لأشعة الشمس لفترة طويلة». في المحصّلة، يجمع المزارعون على أن ما جنوه من أرباح العام الماضي، بعد مواسم زراعيّة جيدة نسبياً، من المرجح أن تتبخّر في ظل استمرار انحباس المطر لفترة طويلة.
---------- ------------- -------------
التصحّر يضرب لبنان: شحّ الأمطار يغذّي معاناة السكان والمزارعين
يؤكد رئيس مصلحة مياه طرابلس كمال مولود أن معدّلات هطول الأمطار لم تمثّل أكثر من 15% من المعدّل العام، و28% من معدل العام الماضي. بوادر الأزمة لاحت: أسعار مياه الآبار ارتفعت، والمزارعون في مهبّ التصحّر. بعض اللبنانيين يتحضّرون للبدء بصلاة الاستسقاء وتقاليد «رحمة إنزال المطر»
عبد الكافي الصمد, داني الأمين
يبدو أن موسمَي الربيع والصيف المقبلين ينطويان على أزمة مياه. شحّ غير مسبوق في المتساقطات خلال فصل الشتاء يحمل هذا الاستنتاج. «فحل الشتي»، أي كانون الثاني، لم يختلف في شحّه عن باقي أشهر فصل الصيف. تندّر اللبنانيون على زخّات خفيفة خلال الأيام العشرين الأولى من هذا الشهر، لكن بلا طائل. لن يحتاج مراقبو أحوال الطقس إلى إجراء مقارنة بالأرقام بين هذا الموسم والموسم الماضي، فالأمر واضح؛ 45 يوماً من دون مطر. أما الثلوج فلم تكوّن سوى طبقة أولية مع قدوم العاصفة «ألكسا»، وهي الآن في مهبّ الشمس.
مظاهر الأزمة بدأت تلوح في الأفق؛ ارتفع الطلب على شراء مياه الآبار وارتفعت أسعارها. الكارثة قد تنزل ألماً شديداً بالمزارعين.
أزمة على الأبواب
حتى أمس، لم يكن معدل الأمطار المتساقطة في لبنان قد وصل إلى المعدّل السنوي الطبيعي. بحسب الأرصاد الجوية لمطار بيروت الدولي. كان يفترض أن يبلغ هذا المعدّل في بيروت 440 ملم في مثل هذا الوقت من السنة، لكن ما سجّل حتى اليوم يبلغ 237.8 ملم. أما في البقاع الأوسط، فقد بلغ المعدّل 128 ملم، مقابل معدل وسطي للسنوات السابقة بنحو 435 ملم. وفي الشمال، بلغ 340.9 ملم فيما كان يجب أن يبلغ 454 ملم ... وهذا المستوى المتدني ينسحب على كل المناطق اللبنانية شمالاً وجنوباً وبقاعاً.
حاجتنا إلى هذه المتساقطات ضرورية من أجل تكوين المخزون الجوفي للمياه في لبنان وتزويد المقيمين في لبنان بحاجتهم من مياه الاستعمال ومياه الشرب. هذا المخزون يتكون بفعل تساقط الأمطار والثلوج، ثم يُستخرج بطرق عديدة، سواء من جوف المياه بواسطة الآبار الارتوازية أو من المياه السطحية. وبالتالي، فإن تراجع كمية المتساقطات وتقلّص المساحات المكسوّة بالثلوج وتقلص عدد الطبقات الثلجية، تؤدي إلى تقلّص المخزون الجوفي والسطحي، ما ينعكس سلباً على مستهلكي المياه ويزيد الفجوة بين الموارد المتاحة والحاجات الفعلية.
هذا المستوى من المتساقطات إذا استمرّ بمنحى سلبي خلال شهري شباط وآذار، فإنه سيتحوّل سريعاً إلى أزمة شحّ المياه. فالمياه السطحية لن تكون كافية لتلبية الطلب، وبالتالي سيلجأ المستهلك إلى استبدالها بالآبار الجوفية التي ستنضب بسرعة أيضاً. كل ذلك يحصل، فيما لم يخرج عن أي إدارة رسمية بعد حجم الطلب الإضافي على استهلاك المياه بسبب وجود النازحين السوريين في لبنان. أكثر من مليون سوري نازح يمثّلون نحو 25% من السكان الأصليين، وإذا اعتبرنا أن طرق استهلاك المياه لدى النازحين هي نفسها لدى السكان، فإن الطلب سيزداد بنسبة 25%.
وبحسب دراسة أجراها الخبير في هذا المجال، محمد فوّاز، فإن الطلب الحالي على المياه يبلغ 900 مليون متر مكعب سنوياً، منها 630 مليون متر مكعب يذهب إلى الزراعة. وبما أن كمية المتساقطات تراجعت في فصل الشتاء الحالي بصورة كبيرة، فإن الجميع يرتقب عجزاً كبيراً في توفير المياه، سواء للاستعمال المنزلي ولمياه الشفة ولري المزروعات أيضاً. لا أحد يمكنه تقدير حجم هذا العجز، لكنه بالتأكيد سيضاف إلى العجز الأصلي الذي يعانيه لبنان.
تغيّر مناخي
«إنها فترة شحّ حقيقي، ونحن نعيش قلقاً حقيقياً هذه الأيام. نأمل تلافي هذا الوضع إذا جرى تعويض النقص الحاصل في تساقط الأمطار خلال ما تبقى من شهر كانون الثاني وفي شهري شباط وآذار المقبلين». بهذه العبارة يعبّر رئيس مصلحة مياه طرابلس كمال مولود عن ارتفاع منسوب القلق من تقلّص المتساقطات في محافظات لبنان. يصف مولود هذه الفترة بأنها «تطور غير مسبوق لجهة التبدل المناخي. لم أرَ مثل هذا القحط في هطول الأمطار منذ دخولي إلى المصلحة قبل 30 سنة».
يعود مولود قليلاً بالذاكرة إلى الوراء، ليشير استناداً إلى سجلات هطول الأمطار السنوية، إلى أنه «مرّ علينا في عام 1999 طقس مشابه لما نشاهده هذه الأيام، لكن انحباس المطر بشكل كامل في شهر كانون الثاني، كما هو حالياً، لم يحصل، إنما كانت تهطل فيه أمطار خفيفة، جرى تعويضها لاحقاً في شهري شباط وآذار».
هذه الظاهرة في رأي مولود «غير طبيعية أبداً، ونحن غير معتادين عليها، فهي فترة استثنائية بكل معنى الكلمة، وهي تعود بلا شك إلى التغيير المناخي الذي بدأت تشهده بلادنا». وكشف أنه «حتى اليوم لم يهطل على مستوى لبنان أكثر من 15% من المعدّل العام للأمطار، و28% من معدل العام الماضي».
يعزو رئيس دائرة التنمية الريفية في مصلحة الزراعة في الشمال غازي الكسار، طقس هذه الأيام إلى عاملين: الأول، وهو طبيعي إذ يشهد لبنان كل عقدين أو ثلاثة سنة قحط وشحّ في مياه الأمطار؛ والثاني يتعلق بتغيّر المناخ.
مافيات المياه
أما في الجنوب، فقد تبيّن أن آبار تجميع المياه في بلدات مرجعيون وبنت جبيل قد جفّت. تزامن هذا الأمر مع تعطّل محوّل الكهرباء الرئيسي الذي يؤمّن التيار لمحطّة ضخّ المياه من نهر الليطاني الى مشروع الطيبة، ومنه الى أكثر من 20 قرية وبلدة في المنطقة. 45 يوماً تزامن فيه توقف هطول الأمطار مع انقطاع المياه، فانفجر الطلب على شراء المياه من أصحاب الآبار. فجأة ارتفع سعر نقلة المياه الصغيرة إلى 40 ألف ليرة. هذه الكمية «لا تكفي إلا أسبوعاً واحداً، أي أن كل أسرة ستدفع 200 ألف ليرة شهرياً لتغطية حاجاتها من مياه الاستعمال»، يقول حسن حمدان من ميس الجبل. هذا الرجل يؤكد أن «أبناء هذه البلدات كانوا يعتمدون على مياه الأمطار ومياه مشروع الطيبة التي لم تكن تنقطع شتاءً، غير أن ما يحدث اليوم أمر غريب. المزارعون يتوقعون فساد موسمهم الزراعي».
شحّ المياه ليس السبب الرئيسي في تعطّل محول الكهرباء، فبحسب أحد العاملين في مصلحة مياه الليطاني أن «هذه المحطّة تعتمد عليها أكثر من 10 بلدات في المنطقة، وتضطر إلى أن تضخّ أكثر من 8000 متر مكعب يومياً من المياه، وهذا يمثّل ضغطاً كبيراً عليها».
ونتج من تعطّل المحول المذكور اضطرار مؤسسة كهرباء لبنان إلى تأمين كهرباء بديلة للبلدات التي كانت تتغذى من المحطة، وذلك من محوّل بلدة السلطانية. وبطبيعة الحال، أدّى هذا الأمر إلى زيادة ساعات التقنين المخصّصة للمنطقة. ويقول أحمد زهوة، من مجدل سلم، إن «ضعف التيار الكهربائي أدّى الى تعطل العديد من الآلات الكهربائية».
صلاة الاستسقاء
مشكلة شحّ المتساقطات دفعت الجنوبيين إلى التفكير جدياً بصلاة الاستسقاء والعودة إلى تقاليدهم وعاداتهم لمواجهة حالات القحط. كذلك، بدأ العديد من أبناء بلدة حولا يتحضّرون لحملة «الشيش بلّة» من أجل هطول الأمطار، وهي عادة قديمة جداً اعتادوا ممارستها عند تأخّر هطول الأمطار. تتضمن هذه الحملة جولة لعشرات أبناء البلدة، كباراً وصغاراً في أحياء البلدة، مردّدين عبارات تدعو الى وقف القحط وهطول الأمطار، ثم يقصدون معظم منازل البلدة للحصول على ما تيسّر من التبرّعات لتقديمها للفقراء، وذلك طلباً لرحمة الله من أجل إنزال المطر.
ويرى كبار السن في حولا أن إنجاز صلاة الاستسقاء أمر شاق وصعب يتطلب لجوء جميع أبناء المنطقة مع جميع الخراف والحيوانات الأخرى إلى مكان معيّن تقام فيه الصلاة إلى حين هطول المطر، وذلك بإمامة أحد المراجع المخلصين. لذلك، يسهل على أبناء المنطقة اللجوء الى «الشيش بلّة». تشمل هذه العادة هتاف أهل البلدة بعبارات: «شيش بلّة، شيش بلّة، ما منروح الاّ تملّي» ثم يطلبون من ربّات المنازل التبرّع، وإذا تجاوبت معهم يردّدون: «حطّوا ليفة على ليفة صاحبة البيت نظيفة»، أما في حال عدم التجاوب فيقولون: «حطّوا قمحة على شعيرة صاحبة البيت فقيرة». تتكرّر مسيرة أبناء المنطقة مرّات عدة «حتى يعود الأهالي مبلّلين بالماء بعد هطول المطر».
تعليقات: