الرئاسات ليست ملكاً للطوائف

الرئاسات ليست ملكاً للطوائف
الرئاسات ليست ملكاً للطوائف


شكل مفهوم المشاركة وتداول السلطة في النظام السياسي والدستوري اللبناني الموضوع الأساس لنقاش حيوي وتاريخي عمره من عمر إنشاء دولة لبنان الكبير. وفي كل مرة كانت تمر البلاد فيها بأزمات وأحداث سياسية، أو يشعر أحد الأطراف من المكونات الوطنية بالغبن أو الإستهداف كان هذا النقاش يأخذ طابعاً حاداً يتسبب في إضطرابات تهدد صيغة العيش المشترك.

ما يجعل موضوع المشاركة مادة مشتعلة بين اللبنانيين هو التداخل بين العرف والدستور، وغياب المعايير السياسية والدستورية والقانونية الواضحة والنهائية في الممارسة السياسية وتفسير وتطبيق مواد الدستور والقانون، وفي غياب الوحدة الوطنية في التعاطي مع التطورات والاحداث المحلية والإقليمية التي يتأثر بها لبنان نتيجة تركيبته السوسيولوجية، وموقعة الجيوسياسي في المنطقة.

طبيعة المشاركة في الدستور:

نظم الدستور اللبناني عملية المشاركة في السلطة السياسية والعلاقة بين المؤسسات فيها، وهو بالرغم من التعديلات المتكررة على مواده، إلا أن التعديل الدستوري الأخير بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 أيلول 1990 هو التعديل الأبرز كونه جاء بعد "إتفاق الطائف" وإعلان نهاية الحرب الاهلية اللبنانية التي إندلعت في نيسان من العام 1975. وكان الهدف من هذا التعديل (كما كان مأمول) معالجة إشكالية توزيع الصلاحيات بين السلطات، والشكوى من الغبن اللاحق ببعض المجموعات اللبنانية، والمطالبة بتحقيق العدالة في توزيع المناصب والصلاحيات بين الطوائف. ولكن يبقى الهاجس الأهم عند أصحاب النوايا الحسنة (إذا وجدوا) هو نقل السلطة إلى المؤسسات وإبراز وتفعيل دورها بمعزل عن الأشخاص والطوائف والفئات، وفتح ممر آمن في جدار النظام السياسي القائم للعبور نحو الدولة المدنية.

المشاركة في السلطة الإجرائية:

كان رئيس الجمهورية، قبل تعديل الدستور بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 أيلول 1990، ملكاً متوجاً على رأس السلطة السياسية في لبنان، فهو كان يرأس السلطة التنفيذية ويتولاها بمعاونة الوزراء (المادة 73) وهو يعين الوزراء ويسمي رئيساً منهم ويقيلهم، ويولي الموظفين وظائفهم ويرئس الحفلات (المادتان 53 و 54)، ويحل مجلس النواب قبل إنتهاء ولايته بقرار معلل في مجلس الوزراء (المادة 53) وينشر مشروع القانون المعجل بعد أربعين يوماً من طرحه على مجلس النواب إذا لم يبت به (المادة 58)، ويؤجل إنعقاد المجلس النيابي لمدة شهر واحد (المادة 59)، ويفاوض ويعقد المعاهدات الدولية ويبرمها (المادة52)، ويفتح إعتمادات إضافية واستثنائية وينقل إعتمادات في الموازنة (المادة 58)، وينشر الموازنة بمرسوم (المادة 86)…إلا أنه بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، تم نزع معظم الصلاحيات الإجرائية من يده، وإن إحتفظ ببعضها وخاصة في ما يتعلق بإصدار مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم (المادة 52 المعدلة)، وتم إناطتها بمجلس الوزراء مجتمعاً كما نصت عليه المادة 65 من الدستور الحالي.

أثر التعديلات الدستورية على ممارسة السلطة التشريعية والمشاركة فيها:

من المفترض، أن التعديلات الدستورية بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 أيلول 1990 كانت تهدف إلى نقل الصلاحيات الإجرائية من يد رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، أي بمعنى آخر نقل الصلاحيات من يد رئيس الجمهورية كشخص، إلى يد مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية مستقلة في نظام جمهوري ديمقراطي برلماني يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ما يقارب الربع قرن من الممارسة على هذا الصعيد، وبعد ما يقارب العقد ونيف من تحرير المقاومة اللبنانية للجنوب المحتل، وبعد سلسلة الأحداث التي أدت إلى خروج القوات السورية من لبنان وما تبعها، هل فعلاً تم نقل الصلاحيات الإجرائية من يد رئيس الجمهورية إلى يد مؤسسة مجلس الوزراء؟ أم الصحيح أنه تم نقل هذه الصلاحيات من يد طائفة إلى يد طائفة أخرى؟

المبدأ والنص الدستوري والقانوني يقر صراحة أن الصلاحيات الإجرائية نقلت من يد رئيس الجمهورية إلى يد مؤسسة مجلس الوزراء كمؤسسة وطنية جامعة، ولكن كثر يرون أن الممارسة والعرف يشيران إلى أن هذه الصلاحيات نقلت من يد طائفة إلى يد طائفة أخرى، ويستدلون على ذلك بكثير من الشواهد الحية التي تتردد يومياً على ألسنة كبار المسؤولين وأصحاب النفوذ السياسي والمالي والطائفي، وما يجعلها قريبة إلى التصديق هي تلك الممارسات الفئوية التي ينتهجها بعض المسؤولين في السلطة وهدفها إرضاء أبناء طوائفهم على حساب المصلحة الوطنية العليا. وهو ما يتجلى من خلال الممارسة وفي أكثر من نهج وأسلوب، ولذلك لا بد من المجاهرة صراحة بالحقائق التالية:

أولاً – إن الدستور أعطى لرئيس الجمهورية والرئيس المكلف الحق بتشكيل الحكومة وبالتوقيع على مرسوم تشكيلها، ولكن هذا لا يعطيهما حق تشكيل حكومة وفق مشيئتهما ولا تمثل الاطراف الأساسية التي حازت على التمثيل النيابي من خلال إنتخابات نيابية عامة، خاصة أن النتائج الأولية لذلك عدم نيل ثقة مجلس النواب والدخول في متاهات جديدة.

ثانياً – إن الصلاحيات المعطاة للرؤساء الثلاثة ولغيرهم من المسؤولين إنما تمنح لهم لممارستها باسم الشعب اللبناني وللمصلحة الوطنية العليا، لا لكي تصادر هذه الصلاحيات من قبل طوائفهم وممارسة الحق في تعطيل المؤسسات وشل البلاد باسم الدستور والصلاحيات الدستورية، كما حصل ويحصل اليوم.

ثالثاً - إن الدستور نص على إستشارات نيابية ملزمة لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب لناحية التكليف بتشكيل الحكومة، وهو لم يشر لا إلى طائفة المكلف ولا إلى مدى صحة تمثيله لطائفته إنما الذي أقر ذلك هو العرف والواقعية السياسية. وبالتالي لا يحق للرئيس المكلف المحاججة بالدستور إذا كان يعلم علم اليقين أن تكليفه جاء على أساس العرف وليس الدستور.

رابعاً - إن الدستور يعطي صلاحية تعيين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم وفق القانون، وليس وفق المصالح الفئوية والطائفية والشخصية، وبالتالي تداول السلطة هو حق من حقوق المواطنين ولا يملك أحد مهما علا شأنه أن يؤبد بعض الموظفين على وظائفهم خلافاً لأحكام الدستور والعرف والقانون، بل والتستر على مخالفاتهم...

خامساً - إذا كان العرف قد أقر بتوزيع الرئاسات الثلاث على الطوائف الكبرى فهذا لا يعني أبداً أن رئاسة الجمهورية كمؤسسة هي ملك للطائفة المارونية وما يصيبها يصيب الطائفة، وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس النواب والطائفة الشيعية ومجلس الوزراء والطائفة السنية، وبالتالي لا يعني أبداً أن إنتقاد رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو رئيس الحكومة هو إنتقاد لطوائفهم، إنما عملاً بالفقرة " د " من الدستور والتي تنص على أن الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية. وبالتالي فهذه المؤسسات ليست ملكاً للطوائف وإلا لكانت الطائفة الدرزية قد أصبحت يتيمة مجلس الشيوخ...

قد يكون الحل الوحيد لهذا الجنون الذي يتغلغل في مختلف مؤسسات الدولة ودوائرها هو العبور فعلاًَ إلى الدولة المدنية، والإحتكام إلى دستور واحد، وإلى معايير قانونية واحدة تحكم الجميع في كل زمان ومكان، وأن يكون الحكم للقانون والمؤسسات ولسلطة قضائية نزيهة، حرة وعادلة، ومؤسسات رقابية تطبق القانون بعيداً عن المحسوبيات والزبائنية، وأجهزة أمنية وطنية، وجيش قادر على حماية حدود الوطن وأمنه وسلامه الداخلي. وإذا كان لا بد من فترة إنتقالية يطبق فيها النظام الطائفي وفقاً للعرف والدستور، فلا بأس أن يطبق ذلك لفترة زمنية محددة، ووفقاً لمعايير ثابتة وواحدة لا تتغير بحسب المصالح الفئوية والسياسية والطائفية، وأن يتم تداول السلطات بشكل يمنع إحتساب كل سلطة على طائفة من يتولاها، ولا مانع من أن يكون رئيس الجمهورية سنياً ورئيس مجلس النواب مارونياً ورئيس مجلس الوزراء شيعياً، كضمانة مؤقتة لهذه الطوائف وغيرها... على أن يمهد ذلك إلى فتح كوة في جدار النظام الطائفي تمهيداً لولادة نظام سياسي جديد لا طائفي، كضمانة للوطن وأهله، والمعيار الوحيد فيه لتولي المهام والمسؤوليات هو الكفاءة والجدارة ونظافة الكف والضمير...

عسى أن لا تغرقنا الحسلبات الطائفية والسياسية الضيقة في متاهات وأحداث جديدة، في وقت نحن على أبواب إستحقاقات دستورية مصيرية، وعسى أن لا يفرض فخامة التعطيل ثقل ظله على هذا الوطن المعذب بنظامه الفئوي والطائفي البغيض وبسياسييه الذين قال فيهم أحد كبارنا " على الذين يريدون أن يكونوا زعماء سياسيين أن يبنوا الزعامة في شخصيتهم أولاً ".

* أحمد حسّان - أمين الإعلام في جبهة التحرر العمالي

تعليقات: