صورة لي في الاعوام ما قبل الدراسة
مخطوطات و صور قديمة اقتنيتها في مكتبتي الصغيرة اعادتني رؤيتها الى زمن طويل مضى. كان البوح فيه الى جدي و جدتي كالقطرة المشتاقة لأديم الارض. و كانت يومها الارض كالطيور في موسم التزاوج، ملونة، مزركشة، و متأهبة.
ولدت في زمن قبل ان يصعق الوطن فيه بأصوات الطبول. و في نشأتي حينها كنت فتاة صغيرة من مقياس لا يناسبه سوى الفرح. كان الزمن يومها منفوخاً بكل الاكاذيب التي حاكها العابرون قبل ان يخيطوا افواههم بالصمت. فقد ولدت و ترعرعت قبل ان يغيروا ترتيب الوطن بالفوضى.
و كان جدي مواطناً بسيطاً يكتفي بالشكوى المتعثرة التي يرسلها في الحضور و الغياب.
كان آمناً من اتساخ الكون من حوله بالانكفاء. كان يحفل لصباحات يغرسون فيها الفل و الياسمين و لا يغرسون فيها القتلى و الشهداء. كان يمرُّ ببلادة على الاشياء المهترئة دون ان يتحفر للتقزز او الغثيان. كان صوته غير مكبوت في داخله، ينفجر كنبع ماء حار في صمت الاستثناء. تشتاق تحلقه حولك و قد أمتلأ فمه بالاحاديث المنكسرة عن الافراد و الاشياء.
و كنت يومها صغيرة حالمة بداخل رأسها الصغير مسرحاً يتربع فوق اهدابه نهارات عائمة، منشغلة بجدلية المتعة المخبوءة في كسرة خبز، بأخبار كثيرة ما يصيب بالإغماء
كان جدي يومها ممن يعجز عن تعبئة بطاقة بريدية بلا أخطاء. كان لا يستقل القطارات السريعة و ان كان يبحث عن سبيل لبصيص نور وسط حصار الاعداء، وسط حصار الليالي الظلماء.
كيف لي أن اتقاسم معك يا جدي لحظة من لحظات كدرك. و قد تقاسمت معك في ثوان، عاودتني معها الذاكرة لأيام احتوت على اذعان للذل و الاضطهاد. كنت أجهل حينها ان اعياداً اخرى في البلدة تستحق الاحتفاء. كنت اجهل ان في البلدة انبعاثات لسياسة، لا بل لسياسات. القُ تعذر احباطه لم يثن عزيمته السؤال عن ايضاحات.
ـ لا يمكن ان نزرع كآبتنا حتى لو كانت احزاننا متراكمة، و هياكل آمالنا تملأؤها الاخفاقات.
ـ لا يحسننا أن ندرك نزعاتنا بشكل منفرد و قبضات ايدينا متضامنة كما الاضواء وسط الظلمات.
ـ لا بدَّ من اغفال القضايا البسيطة حتى ننجح في المعاناة.
ـ ان النزاهة الفكرية تتقدم على استغلال وحشي للحواس.
ـ ان الاقدم سابقُّ في الوجود و الرتبة، و ان المتأخر متأخر في الوجود و الرتبة.
ـ ان الخصوصية تثير الفضول أكثر من المهارة.
كلمات لم أحتج يومها زمناً اتكلف فيه عناء القراءة كي أفهم محتواها، و ليست صدفة ان اكتبها اليوم و لكن تشبهها حتى الالتباس.
جدي ان هذا الوعي و الحب المجاني الذي احطّني به أصابني في الصميم. ان هذه الاقوال سقطت في مكان ما في قاع الذاكرة. ان هذا الاقوال لا تليق الا بالأحلام. فقد أثَّرت فيَّ يا جدي تأثيراً موغلاً تفحصت فيه و معه تاريخ أختام الطوابع. و أغنيت نفسي و أشبعتها بسلال تطفح بالفاكهة التي تلمع في الظل كطَوق حمامة. كيف أجَدت صبَّ قلبي في تلك القوالب الكلسية الجامدة التي منحت العقل مصداقيته بين ما يجب فعله و ما لا يجب.
سأعود حتماً الى تسجيل الوقائع الغائبة في لب التفاح المتجدد.
سأعود حتماً الى الكتابة عن البحر الذي تبخرت مياهه و لم يتبقَ منه الا الصدف و القواقع و صناديق كنوز قديمة من الذهب و الفضة.
فأنت كنت و لا زلت في أعماق قلبي و ستبقى فيه حياً و لو مرَّ على رحيلك الزمن تلو الزمن
..
ملاحظة:
- بعض المخطوطات القديمة التي جمعتها على سبيل الهواية
- الصور المصحوبة هي ملكية شخصية موجودة في مكتبتي الخاصة
صورة جدي و جدتي ( الحاج قاسم باشا و حرمه الحاجة فاطمة دياب (اخذت في ابان ايام الاحتلال في القرن الماضي)
ظرف قديم يعود تاريخه الى 15 شباط 1968
صورة قديمة لعائلة كندية تعود الى العام 1954
اسماء الافراد في الصورة السالفة مع ذكر التاريخ
كرت بريدي يعود الى العام 1971
كرت بريدي بعود الى العام 1961
كرت بريدي يعود الى العام 1979
تعليقات: