على أبواب الذكرى يتجدّد الموقف الصعب، وأراني مثقلاً بهمّ الوقوف أمام هيبة الحدث، فأجمع أوراقي المشتاقة لأكتب لك رسالتي الثالثة ..
سلام لروحك يا أماه وبعد ..
أستعيد معك آخر الأيام قبل أن يبحر مركبك نحو البعيد في رحلة اللاعودة ..
حين دخلتُ عليك مساءً حجرة المشفى وأخبرتك بأنَّ طاغوتاً عربيا ً قد سقط ..
لا أعرف حينها ما الذي دفعني لأزفّ لك تلك البشارة، وأنا أدرك أنّك تستعدّين للسفر نحو عالم لا مكان فيه للطواغيت، ربما فعلت هذا لأني أعرف تماماً أنك عشت أيامك ناقمة على كلّ تجّار الدّين والسياسة والوطنيّة، وأنّ رحيل طاغوت سيكون نسمة باردة ترافق فراشة روحك إلى براعم الحريّة .
..وأعرف أنّ أمراء الحروب كانوا سبباً لحزن استوطن قلبك حتى تبضّع هذا القلب، ومنبعاً لينبوع من الدمع ما جفّ حتى الإغماضة الأخيرة ..
كنت أسمع ترددات الغضب، وكلمات السخط على لسانك، وكنت مؤمناً بكفرك بكلّ العصابة التي حكمت وتحكم بلدنا الصغير المُغتَصب، وتحتلّ حتى زوايا أحلامنا، وتقتل الفرح في جبّ المخيّلة .
مذ كنت صغيراً ما زلت وفيّاً لعقيدتك ـ المحفورة بدماء زوجك وولديك ـ بأن البراءة من المتكالبين على المصالح والمرتهنين لها دِين، ولا عجب أنّ تلك حقيقة يردّدها كثيرون في صمتهم، ويجهرون بها في غرف عقولهم المغلّقة بقرار سلطانيّ.
في السنويّة الثالثة يا أمي.. أستعيد حزنك، ودمعك، ووجعك، وصبرك، وأصبّ لعناتي المحمومة على الذين ألبسوك السواد في شباب العمر، وجعلوا أعيادك حزينة على طرقات المقابر، وبين اللحود المسكونة بالصمت القاتل.
في السنوية الثالثة يا أمي أُعلنكِ شهيدة.. والشهادة رتبة تليق بك.. يا زوجة الشهيد، وأم الشهيدين، والشهود الذين ما برحوا يروون تفاصيل رحلة العذاب الطويلة.
نعم يا أميّ الشهيدة.. يا من قتلك صنفان من الناس ويقتلاننا كلّ يوم، صنف يقتل بسيف الجهل، وصنف يقتل بالتصفيق..
سامحيني أيتها الحبيبة.. فأنا لا أقصد نكأ الجراح، ولا أريد لمارد حزنك أن يستفيق، ولكننيّ في يوم ذكراك أستعيدك كلّك، ومساحة الأوجاع في تفاصيل عمرك طويلة، فتستوقفني الأيام وتستفزّني المواقف، وأعود صبيّاً لأسمعك صراخك يصّعد للسماء في وداع الأحبة، وبكلا الكفيّن أراك تمسحين الوجه بسواد ليس أقلّ اسوداداً من ماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا..
أيتها الحبيبة الشهيدة..
ليس لعدّاد الأيام والسنين، أو لحسابات الموت والحياة، أن تمحو قضيتنا، قضية الإنسان الذي ذنبه أنّه عاش في مجتمع تحكمه وحوش وتقوده غرائز، والقيمة البشريّة فيه رقميّة بخسة، قضية الأمّ التي أثخنت روحها وقلبها جراح يتفطّر لها كبد الجماد، فعاشت أيامها بين ألم وهمّ، ثم غادرت الدنيا ساخطة حانقة ..
أيتها الحبيبة الشهيدة..
أنّى للغضب أن يسكن إلا بين يديّ المنتقم الجبار غداً، وأنّى لوجودك أن يفارق وجودي، فورود ذكراك لن يعتريها الذبول، ونجمك الأشعّ لن يعرف الأفول ..
* الشيخ محمد أسعد قانصو
سجل التعازي بالمرحومة الحاجة عفاف عبداللطيف فرّان (والدة الشيخ محمد قانصو)
مواضيع ذات صلة:
تعليقات: