في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
لم يكن زعيما او وجيها . ولم يكن سليل عائلة نافذة ، او إقطاعي يحلم بسلطة او بجاه . كان ببساطة طبيب البلدة . وهي مهنة قديمة جدا ، لا تقتصر على علاج المرضى ، وإنما تتعداهُ الى نوعٍ من الإلتزام الإجتماعي بحياة الناس اليومية .
كان الدكتور شكرالله كرم مثالا حيا لطبيب الأرياف الذي عرفَته ُ تلك الحقبة من الزمن ، حيث كان الطبيب يحتل مكانة ذات شأن في حياة الناس البسطاء . فهو المُعالج والمُنقذ والساهرعلى صحة المرضى . وهو في الوقت ذاته الناصح والداعم والمُنوّر بسلوكه وسيرته الشخصية .
فليس بالأمر القليل ان يتبوأ الدكتور كرم هذه المكانة الخاصة في ذاكرة بلدته التي كبرت فأصبحت مدينة ، وان يختاره النادي ليطلق إسمه على مُجمّعه الثقافي . فهذا الإختيار إستثنائي بمعايير الزمن الحالي .
فمن هو الدكتور شكرالله ؟ وكيف نقدمه للأجيال التي لم تعاصره ؟
انا أتحدث هنا بإسمي الشخصي ، لا بإسم أبناء الخيام ، كما جاء في الدعوة المشكورة الى هذه الندوة .
فشهادتي هي شهادة مواطن خيامي عرف الدكتور شكرالله في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ، اي الفترة التي ما برحنا نطلق عليها اليوم عنوان : المرحلة الرومنسية . كنا في ذلك الوقت قد قرأنا عن أحوال مُشابهة في أرياف أخرى ، عن طبيب القرية ودوره في مجتمعه المحلي . ولا أبالغ حين أحيل سيرة طبيبنا العزيز الى شخصيات قصصية قرأنا عنها في أدب الكثير من الكُتاب المعروفين .
أراه اليوم أمامي ، بذاكرة الولد الصغير الذي كنتهُ في يومٍ من الأيام : رجلا أنيقا بنظارتين تكادان تنزلقان فوق أنفٍ مُرهفٍ حاد ، وشعرٍ مُتماوجٍ قصير مشدود الى الوراء ، مُتناغم مع بشرة سمراء عربية . . وقامة كانت تبدو لي فارعة في ذلك العمر . كنتُ أراه من خلال غمامةٍ رمادية رسمتها لي مُخيّلتي الصغيرة لكي لا يأسُرَني حضورُهُ .
بإختصار ، هي هيبة الطبيب المُقتدر ، وهالتُهُ التي تجعلُ المرءَ يتمنى ألا يُصابَ بالمرض ، وألا يواجه هذه التجربة الصعبة بين يدي طبيب البلدة .
2
اذكرُ ان أكثر ما كان يُخيفني في حضرته ، نظرته الصارمة التي كانت تخترق نظارتيه لتصل مباشرة الى قلب المريض .
لكنك ما تكادُ تختبر هذه المشاعر الباعثة على القلق . . حتى تسمع صوته ذا البحة المُميزة والنبرة الواثقة ، فتنضبط أمامه وتُسلِمُهُ روحَك وأنت مُطمئنٌ الى خبرته وعُلوِ كعبه في هذه المهنة .
على ان الجلسة لا تنتهي كُلَ مرة بفحصٍ روتيني ، او بتقطيب جرحٍ او بحُقنة مؤلِمة في الساعد او في المؤخرة . . وإنما بتعليقٍ ساخر وذكي من " الحكيم " حول مسألة تخص المريض او شأنا من شؤون البلدة . فقد كان طبيبنا لمّاحا ماهرا ، يُرسل الفكرة الحاذقة بالطريقة الأكثر طرافة .
أما نحن – وانا أتحدث هنا كواحد من أبناء جيلي العتيق – فنزعم أننا نملك من القصص والأحاديث ما يكفي لتعريف الجيل الجديد الى سيرة هذا المواطن الخيامي الطليعي . وهي سيرة ٌغنيةُ بالتفاصيل والمعاني .
في هذا المجال ، أذكرُ ان صديقا أسرّ لي ذات مرة ، أنه في صغرهِ ، عندما كان يلتقي الدكتور شكرالله في ساحة البلدة ، كان يشعر بتحسس شديد في أنفه . وعندما سألتهُ عن السبب قال : " لأنني كنتُ أشمّ على الفور رائحة الدواء التي تُذكرني بغرفة المُعاينة الكائنة في منزله ، وهي غرفة كنتُ أراها دائما مُتجهّمة وعابقة برائحة البنج " .
صديقٌ آخر روى لي أنه عندما كان صغيرا رشق ذات مساء إبن الجيران بحجرٍ أصابه في حاجبه . فأخذه على الفور الى عيادة الدكتور شكرالله . إستقبلهما صاحبُ العيادة مُقدما العناية الطبية للولد الجريح ، من بنج وغرس قُطب وحُقنة ضد الكزاز . وطوال هذا الوقت لم ينتبه صديقي صاحب الرواية الى أن هذا العمل الطبي الطارىء ليس مجانيا . وأن ثمنه من المُفترض ان يكون بضعة فرنكات لا يملك منها فرنكا واحدا . فلبث في مكانه مُرتبكا حائرا في ما يفعل ، وقد شعر بالخجل والإحراج . . الى ان بادره الدكتور بالقول :
سلمّ لي على أبيك . ولا تُراشق بالحجارة مرةً ثانية .
هكذا بكل بساطة ، دون ان يطلب منه أجرا ، ودون ان يأبه للتكاليف التي ترتبت على عمله الطبي .
3
وقد ذكر معظم مُعاصريه أنه لم يتوان في يومٍ من الأيام عن زيارة مريض عاجز في بيته عندما كانت الحاجة تدعو الى ذلك . وبغض النظر عن ان واجبه الطبي كان يُملي عليه هذا الأمر ، إلا انه كان يقوم به بكل عفوية وتلقائية ، فيدخل الى اي منزل من منازل البلدة وكأنه داخلٌ الى بيته . لم تتحرّج من وجوده النساء والفتيات ، حتى ان بعضهن كُن يُجارينه في إبداء التعليقات الساخرة حول أمر من الأمور .
في تلك الأيام لم يكن المواطن المسيحي في الخيام يُعرف من المواطن المُسلم . أبلغ دليل على ذلك ان أبناء الخيام المُسلمين إنتخبوا الدكتور شكرالله كرم المسيحي رئيسا لبلديتهم ، من دون ان يشعر احد بأن الميثاق الوطني تم خرقه ، وان العيش المُشترك أصبح مُهددا . فالعيش المُشترك في الخيام كان مُشتركا بالفعل وليس بالمُجاملة .
اذكرُ ان احتفالات عاشوراء كانت تُقام في الحسينية . وكان يختلط فيها مسيحيو الخيام مع مسلميها . أما الدكتور شكرالله فكان له حضورٌ مُميز في هذه المُناسبات كشخصية خيامية فاعلة . كان يحضر مجالس العزاء ، ليس كضيف ، او من قبيل البروتوكول ، بل كواحدٍ من أهل البيت . فعاشوراء كانت مُناسبة جامعة لكل الخياميين من مُسلمين ومسيحيين . تماما كما كان عيد الفصح عيدا لكل الخياميين . فكان الإحتفال به يجري في الساحة الرئيسية للبلدة ، وليس في الحارة المسيحية . حتى أنك لتحسب نفسك في سوق الخميس . زحمة وضجيج وصُراخ وبيض مكسور على الأرض ، وبيض مُلوّن في الأيادي والسلال . . واحيانا في الجيوب . باعة فرحون لإقبال الناس على الشراء . بهجة في كل مكان . . مشهد عفوي من الماضي الجميل .
هذه اللوحة ، التي تبدو اليوم سوريالية ، رسمتها أناملُ الخياميين الذين عاصروا تلك الفترة ، ومن بينهم طبيب البلدة الذي نحتفل اليوم بذكراه .
لكن هذه الأمور لم تقتصر على المجال الإجتماعي والصحي اوالمُناسبات الدينية ، بل تعدتها الى السياسة . هنا ايضا سوف نعثر على لوحةٍ مُشابهة رُسمت بألوانٍ وطنية تحررية ، حيث كانت الخيام ، بالمعنى السياسي ، جزءا من الحراك العربي الكبير ردا على إنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين ، وجزءا من الحركة الوطنية التي تبنّت مشروع الإصلاح الديمقراطي . وعندما حلّت الهزيمة بالعرب
عام 67 كان الدكتور شكرالله يقف في ساحة البلدة وسط حشدٍ كبير من الأهالي المُحبطين . كانت له كلمة حق سمعها المُتحلقون من حوله . فقال ما معناه " إن
4
الهزيمة لا تزيدنا إلا تمسكا بحقوقنا العربية ، وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في العودة الى أرضه " .
وفلسطين – لمن لا يعرف – هي في ذاكرة الخياميين الأوائل ، أرض الخير والرزق والسعي الى تحصيل لُقمة العيش ، بقدر ما كانت وما زالت عنوانا لمأساة عربية مفتوحة .
لم تكن المواقف الوطنية للدكتور شكرالله إلا إنعكاسا لثقافة إنسانية راقية أملت عليه ان يندمج في مُجتمعه المحلي ، ذي الأغلبية الإسلامية ، على قاعدة المُواطنة الأصيلة التي لا يعترف بها - حتى يومنا هذا - النظام الطائفي في لبنان .
لذا لم يكن غريبا ان يرفض الدكتور شكرالله مغادرة بلدته في ذُروة محنتها وإبتلائها بحربها الأهلية . كان يعلم أن البلدة بحاجة الى طبيبها المُقيم في هذه الأوقات بالذات. لهذا السبب فهو لم يخذلها . كانت مناقبيته / الإنسانية والطبية / تُحتم عليه مُعالجة المرضى والجرحى من كل الأطراف المُتحاربة . لم يستطع إلا ان يفعل ذلك . ليس خوفا من احد ، وإنما إنسجاما مع تربية وثقافة وقسم يحترمه . وقد جاء استشهاده ، وهو مُنكبٌ على معالجة جرحى الحرب ، تجسيدا لتلك الرسالة التي آمن بها وسار على هديها في حياته . لقد كانت وفاته مأساوية ، بالطريقة العبثية والوحشية التي عكست معاني الحرب وتجلياتها اللا إنسانية . تماما كما حدث لمجموعة من الرجال والنساء المُسنين الذين سقطوا في مجزرة الخيام . إنه لتاريخٌ إنسانيٌ يستحق الحفظ في ذاكرة المجتمع الخيامي ، لا بل اللبناني ، من خلال أعمالٍ أدبية تليقُ به .
اليوم تجمعُنا ذكرى رجلٍ عرفَتهُ الخيام في عزّها ، كما في محنتها : صادقا ومُخلصا وفاعلا ومُضحّيا بغير حساب ، رمزا حقيقيا مُتفانيا ومُحبّا كما يليقُ بالرموز ان تكون .
تحيةً الى ذكراه الطيبة . وتحيةً لكل أبناء الخيام ، الأموات والأحياء ، على تضحياتهم وصبرهم على المحن . شفى الله هذا الوطن . وحمى الله اولادنا واجيالنا الجديدة .
فؤاد مرعي 22 / 2 / 2014
..
(كلمة ألقاها الدكتور فؤاد مرعي في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
كلمة صبحي القاعوري "شكرالله كرم.. ذاك الأسطورة"
كلمة د. يوسف غزاوي "شكرالله كرم.. نبيّ الأطبّاء"
كلمة المحامية وداد يونس "في ذكرى اغتيال الدكتور شكرالله كرم"
كلمة الدكتور كرم كرم "شكرالله كرم.. بإنسانيته المعلنة كان رافضاً لوثنيات الممارسة الكهنوتية"
ألبوم صور النشاط الذي أقامه نادي الخيام إحياء لذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم
التقرير المصوّر لتلفزيون الجديد عن ندوة نادي الخيام الثقافي في ذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
في الندوة التي أقيمت بذكرى استشهاد الدكتور شكرالله كرم بدعوة من نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
تعليقات: