الفنانان كرم الله عبدالله والدكتور يوسف غزاوي
في أقاصي الجنوب، وعلى تلة مواجهة للاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين زرعَ مُحترفه وسكنه. لا يفصله عن العدوّ سوى خطّ هوائيّ لا يتعدّى مئات الأمتار، أوكما نقول باللغة العسكريّة "خط نار". صخور مُتشحة بالسواد تزنّر مملكته من كلّ الاتجاهات.
أثناء زيارتي الأخيرة لمنطقة الوزاني، وبعد انقطاع طويل، لفت نظري منظر حصن مُسيّج بالحجر الأسود يشي بأنّ الداخل يحتضن ما هو مميّز. شكّلت الأحجار السوداء حوائط وجدران المملكة حاكت هندسة القلاع القديمة كمربّعات الشطرنج (فارغ ممتلىء). سألتُ مرافقي الذي يسكن البلدة ويعرف كل سكانها وتفاصيل جغرافيّتها وأشجارها وأحجارها.. أجابني أنّ نحاتاً يسكن داخل هذه الأسوار، وهو على معرفة شخصيّة به، ولديه منحوتات عدّة على درجة من الأهميّة. فاجأني الأمر، وطلبتُ منه الدخول للتعرّف إليه والاطلاع على ما ينتجه من أعمال.
إسمه "كرم الله عبدالله"، ابن مأمور النفوس الأسبق لمنطقة مرجعيون "عباس خليل العبدالله". في نهاية الأربعينيات من عمره. كان يقف في الخارج بمحاذاة كتلة صخرية ضخمة تشبه الفنجان، تحيط به الصخور والأحجار السوداء المُبعثرة من كل جانب مع قليل من الأعشاب الخضراء المترامية بين الأحجار هنا وهناك. بعد تبادل التحيّة والتعرّف أخذ يشرح لي ماهية هذه الكتلة والأعمال الأخرى الموجودة في المكان وداخل المُحترف. يُحاول في أعماله، وحسب قوله، استيحاء التراث القديم، مركّزاً على الأدوات المنزلية منها، ولا سيّما الصحون والطاولات وأواني تجميع المياه. والسبب يعود إلى أشكالها المسطحة المُنبسطة التي يُفضلها على غيرها حسب قوله.
أما العمل الذي نقف إلى جانبه فهو عبارة عن معصرة زيتون تعمل باليد قام النحات بتفريغ الجزء الأعلى منها بالصاروخ الذي يُستعمل للنحت وترك شكل دائريّ طويل في الوسط ليكون محوراً يدور حوله الدولابان الضخمان المصنوعان أيضاً من الحجر، والذي يعجز عدّة رجال عن تحريك الواحد منها. قام أيضاً بنحت قضيب سميك من الخشب ليشكّل الذراعين اللذين يمسكان بالدولابين أثناء الدوران. حافظ الفنان على طبيعة الخشب أثناء معالجته له، وقد يلجأ إلى تعتيقه مع الجرن الحجريّ لإعطاء الانطباع بالزمن وانتمائه إلى التراث القديم، ساعد في هذا الانطباع وجود بعض التجاويف الصغيرة في الحجر التي يعمل الزمن عادة على إيجادها عبر تآكل بعض أجزائه. من يُشاهد العمل يُدرك براعة كرم الله وقوّة بنيته في تعامله مع ثقل الحجر الذي تتحوّل معه هذه الكتل الصمّاء إلى معزوفات وإيقاعات نظرية طريّة وجميلة.
عن مكان دراسته ومجال تخصّصه، أجابني أنه لم يدرس النحت وتقنيّته في أي مكان، لكنه عاش في الدانمارك ستاً وعشرين عاماً واطلع على أعمال وأساليب كثيرة لفنانين أجانب، وهو يُحبّ النحت كثيراً، ومن خلال مزاولته له استطاع أن يكتسب خبرة كبيرة بتقنيّته وأسراره. فهو إذن فنان عصاميّ يتمتّع بموهبة تنبثق كالضوء من قلب الصخر الأسود الأصمّ.
عن الحجارة التي يستعملها قال أنها من منطقة الخيام، منها الأبيض ومنها الأسود القاسي المعروف باسم "البازيلت" التي هي عبارة عن أحجار بركانية تزخر بها المنطقة منذ القديم.
دخلنا المحترف فطالعتنا غرفة كبيرة بشكل طوليّ أستراحت في وسطها طاولات وضع عليها عدّة الشغل وبعض المنحوتات منها ما تمّ إنجازه ومنها ما هو قيد الإنجاز؛ يغلب على الأعمال كما ذكرنا فكرة الصحون المُسطحة بأشكال عدّة لا تتجاوز المتر طولاً أو عرضاً مع تجويف بسيط داخلها يكاد لا يُرى. ما يُميّز هذه الصحون هو وجود أقدام لها أو قواعد تشكّل جزءاً من الحجر وليست إضافات عليه ممّا يجعلها ترتفع عن الأرض مقدار إرتفاع هذه القواعد.
أمّا الطاولة فقد تعدّت مساحتها المترين طولاً، ملساء كقطعة خزف صُنِعت أيضاً من الصخر الأسود. وقد طغى على هذه الأواني أسلوب المنيمال الاختصاري ذو الاشكال الهندسية المتكرّرة والمبسّطة. في الخارج وقريباً من المدخل الرئيس ثمّة تجهيز لبضعة منحوتات مُلفتة بأشكلها وتوازنها حيث وُضعت قطعة صخرية بشكل أفقيّ فوق أخرى عمودية أعطت خفّة وتوازناً للحجر... يمكننا نسبة الفنان كرم الله إلى تيار ما بعد الحداثة نظراً للمواصفات التي ذكرناها آنفاً بالرّغم من عدم تحبيذه للانتماءات الفنيّة والإسلوبيّة، فالمهمّ بالنسبة إليه هو إيصال رسالته وإظهار ما يعتمل داخله من محرّضات ومحرّكات إنسانيّة وإبداعيّة.
يأمل الفنان "كرم الله" أن يتعرّف اللبنانيون وسكان المنطقة على أعماله، وأن يقوموا باقتنائها ولا سيّما البلديّات لأنّ أعماله تحاكي التراث الذي يليق بتاريخ المنطقة والبلد وخاصّة بعد اندثارها ونسيانها من قبل الكثيرين ووجوب تعرّف الأجيال الجديدة على ما أعطاه أجدادهم والإنسان الأوّل من جهد وفن في أبسط أمور حياتهم ومعيشتهم.
ألبوم صور مشغل النحّات الفنان كرم الله عباس العبدالله
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
في مشغل النحّات «كرم الله عبدالله» ناسك الحجر
الفنانان كرم الله عبدالله والدكتور يوسف غزاوي
تعليقات: