علي عطوي - أحد شهداء مجزرة الخيام
كان الوقتُ بُعَيْد منتصف شهر آذار من عام 1978 بأيام معدودة. كنت صرت معتادة، كما غيري من اللبنانييّن في تلك الآونة، على انتظار صوت "شريف الأخوي" لِيُعلِن عبر أثير الإذاعة اللبنانية عن فترات وقف إطلاق النار كي أُرسل ولديَّ إلى المدرسة، أو أذهب إلى عملي وجامعتي، أو إلى الفرن للفوز ببضعة أرغفة، أو إلى سبيلٍ قريب لملء الغالونات بالمياه، أو إلى دكاكين الحيِّ لشراء بعض المواد الغذائية المتوفِّرة، والشموع، وبطاريات لراديو الترانزيستور.
فترات، غالباً ما كان يخترقها رصاص قناص من هنا، أو عملية خطف على الهويَّة من هناك. أو يقطعها فجأة عودة المعارك بين الميليشيات المتحاربة إلى الإشتعال، أو اندلاع الرصاص المُطْلَق من رشاشات عناصر "قوات الردع العربية" المُرابطة تحتنا في شارع "سبيرس" صوب سيارة مسرعة، أعمى الخوف سائقها عن التوقف أمام حاجزهم.
في ظلِّ ذلك الفضاء المُلبَّدِ بدخان القذائف والغيوم الآذارية بدأت أخبار الإجتياح الإسرائيلي للجنوب المُسمَّى "عملية الليطاني"، تطغى على إعلانات "شريف الأخوي عن فترات وقف إطلاق النار، وتتصدَّر عناوين الصحف وملاحق النشرات الإخبارية المتتالية.
فآلة التدمير والقتل الإسرائيلية لم تُبْقِ على مدينة أو قرية أو بلدة جنوبية إلاَّ ودمَّرتها وحولتها إلى أنقاض. ولا على أحدٍ من أهلها خذلَهُ حظُّه بالنجاة من براثنها، إلاَّ ونفذَّت فيه قرار حكومة "تل أبيب" بإعدامه، داخل البيوت والمساجد والكنائس، على الطرق الساحليّة، بين مسالك الأودية والجبال الوعرة، على ظهر مركب.
توقُّعي لأيِّ خبرٍ سيِّءٍ يتعلق بمصير والديَّ في "الخيام" صار عادياً حينذاك مع تكرار كلِّ مَن تسنَّى لي لقاءهم من النازحين عنها لجواب واحدٍ مرفق بهزَّةِ رأسٍ حائرة:
_ما حدا قِدِرْ يعرف شي عن غيرُه، يمكن يكونوا أهلِكْ بعدُن عايشين، ويمكن؟؟؟_
ومع انتشار خبر قيام تلك الآلة بإعمال مجزرتها في رقاب من لم تسعفهم أقدامهم بالهروب من "الخيام"، ومعظمهم من المُسِنِّين، انهارت البقية الباقية لديَّ من أملٍ ضئيلٍ ببقاء والديَّ على قيد الحياة .
قُبيل الآخر من آذار ذلك العام،
استيقظت مرتعبة على طرقِ باب شقتي بشدة. كان الوقت تجاوز منتصف الليل.
_مَن الطارق؟_ سألت بصوت يرتجف كما كان يرتجف ضوء القنديل بيدي.
وقفت لثوانٍ على العتبة أُحدِّق في وجهيهما الشاحبين غير مُصدِّقة لوجودهما أمامي.
_حَضّْري بسرعة مغطس ميّْ دافية مع ملح لرجلي أمِّك_ قال لي أبي بصوتٍ مُتعبٍ واهٍ وأنا أساعدهما للوصول إلى أقرب مقعد.
قبل أن يرويا لي كيف نجحا ليلاً بالتسلل من البيت في "الخيام" إلى سهل "الوطى"، ومنه إلى وادي "إبل السقي" دون أن يدركهما أحد من عناصر ميليشيا "سعد حداد" أو من الكوماندوس الإسرائيلي،
أو كيف اختبآ في بطن شجرة زيتونٍ مُعَمِّرَةٍ في ذلك الوادي، لثلاثة أيام كاملة، زادهما رغيف وقنينة ماء،
وكيف حبسا في جوفها أنفاسهما خوفاً من انكشاف أمرهما، من غير تفكير بلسعة عقرب أو أفعى سامة، أو بهجوم قد يباغتهما به أحد الخنازير البرية المنتشرة هناك،
أو كيف أُدميت أقدامهما وتورَّمتا بِتعثُّر خطاهما عبر مسالك الهضبات والأودية الوعرة الشاقة قبل بلوغهما مفرق "حاصبيا"، حيث نقلتهما من هناك إلى ساحة "شتورة" شاحنة عابرة،
وقبل أن يَفْتُرَ الماءُ المالح الدافيء الذي يغمر قدمَيِّ أمي.
أو يشربا الشاي،
غرقا سريعاً في نومٍ عميقٍ.
* المحامية وداد يونس (رئيسة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي)
واحد من أيام الحرب الأهلية: دمار هائل في ساحة البربير - أرشيف جمال السعيدي
تعليقات: