لتكن زهرة دوّار الشمس شعارنا في الحياة ، نعيش كما هذه الزهرة، وجهنا دائماً للشمس ووجهتتنا أبداً للحقيقة
.. وحين وصل إليه حيّاه و أهداه زهرة دوّار الشمس !..
تعجّب الملك من هديته ولم يستطع أن يخفي دهشته وحيرته، فأومأ على عجل لأحد حراسه أن يستوقف ذلك الرجل ..
لحق الحارس به، وقد همّ بالخروج من قاعة الاستقبال المكتظّة بالناس المغمورين بفرحة لقاء الملك. قال الحارس : إنّ صاحب الجلالة يأمر باستبقائك فهلمّ معي ..
لم يسأل عن الأسباب، ولم تأخذه الدهشة المقرونة بالخوف والرهبة، وإنما مشى بتؤدة أمام الحارس الذي قاده إلى غرفة ملحقة بالقاعة الكبيرة .
انتهى الاحتفال وخلا المكان من الجموع التي استنفذت كلّ تملّقها ومديحها، وأودعت جلالة الملك هداياها المجبولة بعرق الأيام وخبز الفقراء.
أمر الملك بإحضار الرجل فأدخل عليه، وبدون مقدمات عاجله بالسؤال:
من أنت.. وما سرّ زهرتك هذه ؟
قال الرجل: أما أنا فمن أبناء رعيتكم، أعيش في هذه المملكة، أملك قوتي كفاف يومي، وأستزيد من قوت عقل لا يرضى بالقليل ..
وأما زهرتي ، فقد أهداني نظيرها والدي مذ كنت صبياً ورفيقاً له في الحقل، يوماً ما قال لي: "يا بنيّ أنظر إلى هذه الزهرة فهي رفيقة الشمس الدائمة، وجهها لا يشيح عن النور، والنور يعني الحقيقة التي لا تغيّبها العتمة، يا بنيّ لتكن زهرة دوّار الشمس شعارك في الحياة ، عش كما هذه الزهرة، وجهك دائماً للشمس ووجهتك أبداً للحقيقة"..
ومنذ ذلك اليوم وأنا شديد التعلّق بدوار الشمس، أزرعها في حقلي، أزين بها جدراني ودفاتري، وأهديها لمن أحبّ وأرجو له الخير ..
قال الملك: ولما خصصتني بها وإلامَ ترمي من وراء ذلك ؟
أجاب الرجل: يا صاحب الجلالة الناس عبيد أهوائهم و الدنيا دار افتتان، ولكم سقط في شباكها كثيرون ممن كانت تسحرنا ألسنتهم وترهقنا أفعالهم، كم من خطيب كان يبيع الحق بالباطل، وتاجر بالدين يقود الناس إلى الضلالة، كم من حاكم مستبّد بنى سلطانه على هياكل الضعفاء وجماجمهم، كم من مال نهب، ودم سفك باسم الله والعدالة .
يا صاحب الجلالة لا يغرنّك أولئك الذين جاءوا محمّلين بالهدايا، وأطربوك بمديحهم وتصفيقهم، فوالله ما قادهم إليك إلا الخوف والطمع، الخوف من سطوتك، والطمع بما في يديك. جاءوك وقد أسلسوا قيادهم لك وأوكلوك أمورهم، حملوا إليك عقولهم لتفكّر عنهم، وأقروا لك بالطاعة العمياء لتكون سيّدهم ..
فإن أحسنت إليهم ولو من جيوبهم سبّحوا باسمك ورفعوا صورك في الساحات، وإن لم يهطل عليهم غيثك سلقوك بألسنة حداد ..
يا صاحب الجلالة أعذرني إن لم أنحنِ لك حدّ الركوع كما يفعل الناس، لأني نذرت ركوعي للكبير المتعال، وتجاوز عن جرأتي التي لم أقصد منها الإساءة بقدر ما أردت النصيحة والإحسان ..
أيها الملك كن كدوّار الشمس وجهتك الحق والخير، واجعل من هذه الزهرة شعاراً لمملكتك ورمزاً لحكمك، تصفّح وجه الشمس لينعكس نورها على محيّاك، ليضيء لك الطريق ويهديك السبيل، فيسود العدل في الرعيّة، ويعمّ الخير، وينتصف للمظلوم من الظالم .
أيها الملك « قلِ الحقّ في وجوه الأقوياء، واحرص على أن لا تقول الباطل لتكسب تصفيق الضعفاء»، وما أروع أن يصفّق لك هؤلاء، لأنهم أبعد ما يكونون عن التملّق والزيف ..
أطرق الملك وقد أعجبه كلام الرجل المسترسل في خطابه الوعظي، وكان مستمعاً باهتمام لكل ما ينثره ذلك الحكيم من دروس وعبر .
وحين انتهى من مقالته الجميلة تبسّم الملك في وجهه وأذن له بالانصراف.
و في اليوم التالي تفاجأ الناس حين رأوا راية كبيرة زرقاء تتوسطها زهرة دوّار الشمس تعلو القصر المنيف !..
بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو
تعليقات: