رجالات من بلادي: الدكتور مسعود ضاهر‎

الدكتور مسعود ضاهر مدّ المكتبة اللبنانية والعربية والعالمية بفيض من الحقيقة و الرؤى
الدكتور مسعود ضاهر مدّ المكتبة اللبنانية والعربية والعالمية بفيض من الحقيقة و الرؤى


ثمة رجال لا يتسع لهم المكان. يولدون في قرون مكتظتاً بالمآسي فتشكل أعمالهم الكثيرة منعطفاً و مقتربات. مسعود ضاهر واحدُ منهم, باحثُ اجتماعي, كاتبُ و مؤرخ, ذو الذات المبدعة التي ما فتئت تراود قلق الاسئلة. ولد الدكتور مسعود ضاهر في قرية فقيرة من قرى عكار, في شمالي لبنان, و كانت ولادته قبيل منتصف القرن العشرين. و قرى عكار " هي من المناطق الللبنانية التي كان يُضرب المثل بتخلف أنماط السكن و العمل و الثقافة و الصحة فيها على مختلف الاصعدة."

و حسب رواية الاهل و الجيران عن طفولة الدكتور مسعود ضاهر المطابقة لطفولة كل أبناء الفقراء في لبنان, تُجمع كلها على رؤيتهم له في سنواته الاولى يحمل الكتاب بيمينه و هو في طريقه الى الحقول و المراعي على غرار جميع أبناء المنطقة. و هو اذ يتساءل و نتساءل معه من أين جاءه هذا التمسك اللا شعوري بالكتاب كخشبة خلاص من هذا الواقع الموغل في التخلف؟

" لم يكن للتعليم دور ملحوظ في عملية الترقي الاجتماعي الاّ لدى قلة نادرة جداً من أبناء الفئات الوسطى في المنطقة دون أن يشاركهم الاقطاعيون او كبار الملاكين الشعور عينه بضرورة تعليم أبنائهم."

نستطيع أن نجزم لأثر تلك المرحلة في تكوين شخصية الدكتور مسعود ضاهر. حيث أنه قد نشأت لديه اذن على حد تعبيره " قناعة تامة بأن العلم وحده قادر على تحريري من أسر البيئة الفقيرة التي كنا نعيش فيها نحن ابناء عكار و المناطق اللبنانية النائية."

على جدران حب الامكنة القديم و بين زواريب الطرق الضيقة حيث البيوت المتعلقة و النوافذ المتشابكة, كان على الدكتور مسعود أن يجادل المدرك الحسي, منذ نعومة أظفاره, في هم ثقافي و ابداعي مشترك. ان الشاب الذي كان يطمح الى الكثير في مجتمع يعاني فجوة كبيرة وواسعة بين الاثرياء جداً و الفقراء جداً كان عليه الانتقال في سن الخامسة عشرة الى مدينة زحلة, البعيدة جداً كما يقول الدكتور مسعود, للالتحاق بدار المعلمين فيها, و كسب لمنحة لم تصل الى المائة ليرة شهرياً. و هو اذ يتابع فيقول: " ما ان انتهت سنوات الدراسة حتى عينت معلماً ابتدائياً في البقاع الغربي ثم نقلت الى مدرسة حلبا التي لا تبعد عن قريتنا سوى عشر دقائق سيراً على الاقدام." ثم يردف فيقول " انني الححت في طلب الواسطة للانتقال الى بيروت في العام نفسه, استعداداً لدخول الجامعة اللبنانية."

و يردف فيقول " كانت بيروت عام 1964 م تضج بالثقافة و الاعلام, و التجارة و الخدمات و كانت الجامعة اللبنانية تعيش مرحلة التأسيس المقرون بعذابات الولادة, فكان عليّ الى جانب الكثيرين من أبناء جيلي, أن ننخرط في الحركات الطلابية, و النضالات المطلبية دفاعاً عن تطور الجامعة و حقوق المعلمين."

, يضيف الدكتور مسعود فيقول " ان على المثقف الحقيقي ان يقرن الابداع بالكلمة مع الابداع بالموقف العملي."

" و ما زلت شديد الايمان بأن على المثقف الانخراط الدائم في نشر ثقافة التغيير و رفض كل اشكال قمع الحريات.......و مصادرة الحقوق الاساسية للأفراد او الجماعات." و هو على قناعة تامة بأن " اذا تعذر العمل السياسي كملتزم في صفوف أحد أحزاب التغيير التي تعاني الآن أزمات بنيوية و تنظيمية حادة, فعليه أن يبقى أميناً لتراث شعبه في النضال من أجل التغيير الديمقراطي."

حصل على أفضل النتائج السنوية في الجامعة اللبنانية مما خوله السفر في بعثات على حساب الجامعة لإكمال دراسته و نيل الدكتوراه في الخارج. فاختار جامعة السوربون في باريس لإعداد اطروحة الدكتوراه, الحلقة الثالثة و الدكتوراه دولة, بإشراف البروفسور جاك بيرك.

أما عن تجربة المثقف فيقول مسعود" و ما زلت على قناعتي الاولى ان لا قيمة للمثقف الا اذا كانت حياته الشخصية مرآة لثقافته. و الثقافة المقاومة هي أعلى درجات الثقافة. و هي فعل ايمان تقوم به الشعوب الحرة التي تقدّم أغلى التضحيات دفاعاً عن الذات و المصير و المثقف الحر قادر على التعبير عن آلام و آمال شعبه بالكلمة الصادقة او باللوحة, او بالموسيقى, او بالمسرح, و لعل أروع صور الثقافة أن يرسم المثقف بدمه ملحمة الشهادة دفاعاً عن الوطن, ’و دفاعاً عن حرية شعبه و كل الشعوب المناضلة من أجل حريتها." و عنه انه يقول" ان الثقافة الحقة هي فعل أيمان بالانتساب الدائم الى صفوف طالبي العلم, و هي تفاعل خلاّق مع ذاكرة الامكنة و حضاراتها, و متعة الحوار اليومي مع شعوب اخرى عبر عاداتها و تقاليدها و لغاتها القومية."

و هو اذ يتحدث عن حياته في العاصمة اللبنانية فيقول" أذكر جيداً أن الحياة في العاصمة, لسنوات طويلة كانت لا تطاق خاصةّ في فترات القصف المتبادل بين الاطراف المحلية المتنازعة و ميليشيات الطوائف المنفلتة من جميع الضوابط الخلقية و الانسانية. مع ذلك استمر التدريس في الجامعات العاملة في لبنان في ظل صعوبات مرعبة, و تعرض الاساتذة لمضايقات كثيرة من قبل الميليشيات أدّت الى استشهاد عدد كبير منهم, و في طليعتهم حسين مروة, و الشيخ صبحي الصالح, و الشيخ حليم تقي الدين, و حسن حمدان" مهدي عامل " , و جورج حنّا, و جميل ابراهيم و عشرات غيرهم."

و يتابع الدكتور مسعود ضاهر قائلاً " أنا ارى أن مستقبل البشرية لا بدّ أفضل من ماضيها رغم كل ما يبرز الى السطح من حروب و ويلات فالمستقبل فعل تغيير حتمي تشهد نماذج رائعة عنه عبر التبدلات العلمية و الاعلامية العاصفة في بعض الدول."

و هو اذ يذكر عن صديقه قوله:" الثقافة أقوى من الموت, لا بل نقيضه, و طائر الفينيق سينبعث من رماده, و نبع الحياة يتجدد كل عام ناصعاً كثلج لبنان."

لقد ثابر الدكتور مسعود ضاهر على العمل الطليعي في " اتحاد الكتّاب اللبنانيين" و " المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" و " الرابطة الثقافية في أنطلياس" و غيرها من المؤسسات الثقافية اللبنانية التي لعبت دوراً طليعياً يثير الاعجاب و يستحق كل الشكر و التقدير"

" صورة لبنان الثقافي التي شوهتها بنادق الميليشيات الاخوية المتناحرة"

الدكتور مسعود ضاهر مدّ المكتبة اللبنانية والعربية والعالمية بفيض من الحقيقة و الرؤى.

فهو الى جانب تدريسه في الجامعة اللبنانية _ اشترك الدكتور مسعود ضاهر _ في تأسيس " رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية" و في نشاط " اتحاد الكتاب اللبنانيين" كذلك شارك مسعود ضاهر_ في الهيئة التنفيذية للجمعية العربية لعلم الاجتماع منذ العام 1988م. و في اتحاد المؤرخين العرب حيث شغل مركز الامين العام المساعد لشؤون البحث العلمي ووسام المؤرخ العربي منذ العام 1992م.

بقي اعتزاز الدكتور مسعود ضاهر بالوطن و الدفاع عن سيادته و استقلاله مع شهود انهيار الوضع الاقتصادي اللبناني و انهيار عملته الوطنية و هو القائل " الحفاظ على مستوى ثقافي متميز لأبنائه يثير لدينا راحة نفسية لا يجدها مثقف هاجر بحثاً عن شهرة او مال او راحة جسدية."

طبيعة عمل الدكتور مسعود ضاهر الثقافية كمؤرخ غذّت ديناميكية مؤسسات البحث العلمي في الوطن و خارجه. و كان له الفضل في عملية البحث و التوثيق لنشر عدد من الكتب عن حركة التحديث اليابانية منذ القرن التاسع عشر حتى الآن, اذ يعتبرها التجربة الاولى و الناجحة للتحديث خارج المركزية الاوروبية الامريكية. هذه التجربة التي يقول عنها انها لم تُقدم الى الآخرين بوجهها الانساني الحقيقي. و حسب رأيه أن اليابانيين يتحملون أنفسهم مسؤولية التقصير في هذا المجال فقد تركوا الساحة للإعلام الغربي ليشوه عمداً صورة اليابان, و يقلل من أهمية نموذج تحديثي خارج المركزية الاوروبية الامريكية, و يجعل منه مظهراً للشك الدائم بقدرتها على التحول الى نموذج عالمي يحتذى في مجال الجمع بين حداثة دون تغريب و أصالة لا تتعبد للتراث و الماضي الذهبي. و هو المؤمن بالإمكانات الكبيرة المتاحة أمام العرب للاستفادة من اليابان في بناء نهضتهم الثانية على أسس جديدة.

أدمن الدكتور مسعود ضاهر على المشاركة في النشاطات اللبنانية, العربية و الدولية. كان له الفضل الاكبر في الاسهام في تقديم أبحاث علمية ضمن أكثر من عشرين كتاباً ثقافياً جماعياً نشرت بالعربية, و الفرنسية, و الانكليزية حول موضوعات ذات صلة بتطور الدول العربية في التاريخ الحديث و المعاصر. و كان له فرص المشاركة في أكثر من مائتي مؤتمر أو ندوة علمية, داخل الوطن العربي و خارجه.

حاز على العديد من الجوائز منها جائزة العلماء العرب الشبان عن العلوم الانسانية لعام 1983م. حائز على وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب عام 1993م.

و لا بدّ لنا من أن نذكر اسماء المؤرخين الكبار الذين لعبوا دوراً ملحوظاً في حياة الدكتور مسعود ضاهر الثقافية فكانوا له نعم المثال في سعة الثقافة و صلابة الموقف الوطني و الوعي: يوسف ابراهيم يزبك, و عبد العزيز الدوري, و قسطنطين زريق و الدكتورة زاهية قدورة.

الدكتور مسعود ضاهر ولد في رحم المعاناة في قرية ليست أم و لكنها كانت أماً له ليبدأ معها رحلة طويلة و مراحل شاقة آزرته و دفعته الى الامام فكانت سوابقه عملية قرن فيها الاقوال بالأفعال و سيرته الذاتية تؤكد على ذلك. رجلُ كان أشدّ اصراراً من الجميع حيث حمل هماً ثقافياً متعدد الاوجه و لكنه ذي بعد انساني شمولي واحد.

هنيئاً للأرض التي حملتك صغيراً تلعب و تلهو في حقولها و هنيئاً للوطن الذي استضافك كبيراً حاملاً هموم الوطن مكرساً تاريخه.

أوتاوا في 31 آذار 2013

النصوص و الاقوال مأخوذة من مرفأ الذاكرة: الوفاء لذاكرة المكان بقلم : الدكتور مسعود ضاهر

العربي العدد 512 يوليو 2001 م

..

* هيفاء نصّار - أوتاوا، كندا

تعليقات: