في كل مرة أدرك عظمة كلمة قالها أمير المؤمنين علي عليه السلام وما زالت حيّة وحاضرة في كل زمان ومكان " عقاب الأحمق الصمت". وما أكثر الحمقى في زماننا!. وبما أنّ أهل المنطق قسّموا الجهل إلى قسمين، جهل بسيط وجهل مركب، فكذلك أهل الحكمة قسّموا الحمق إلى قسمين، حمق بسيط, وحمق مرّكب، والحمق المرّكب يعني أن يكون الإنسان غبياً أحمقا, وهو يظن نفسه فيلسوف الفلاسفة ..
من مواقف الحمق، صادفني موقف قبل أيام, حينما أكرِهت على نقاش مع بعض جهابذة التحليل حول كرة القدم، حيث اعتبر هذا الجهبذ أنّه لا يجوز تشجيع أيّ منتخب من المنتخبات الرياضية سيما الغربية منها لسببين رئيسيين، السبب الأول : إنّ هذه الدول هي دول كافرة تكيد للإسلام والمسلمين، وإنّ تشجيعها ضرب من ضروب الخيانة للقضايا الإسلامية والعربية.
السبب الثاني : إنّ تشجيع المنتخبات الرياضية ومتابعة المونديال فيه إشكالية شرعية وخلط للأولويات التي ينبغي للإنسان المسلم أن يحسن ترتيبها، فعليه بدل أن يضيّع وقته الثمين في مشاهدة المونديال التصديّ لقضايا الأمّة سيما في هذه الفترة العصيبة .
وانطلاقاً من هذين السببين الذين ذكرهما هذا الفيلسوف كان رديّ بمنطق الهادئ الواثق الذي لا تأخذه الحماسة، ولا الشعارات، ولا يسمح لعقله أن يدجّن تحت تأثير خطاب من هنا, أو إعلام من هناك، أو لعب على الغرائز والمشاعر .
أما ما ذكره عن دول الغرب والحكم عليها بالكفر والمعاداة للإسلام والمسلمين, وعليه يكون تشجيعها ولو في الرياضة حراما، فأنا وبعيداً عن الخوض في السياسة أعلن له التأييد شريطة أن لا يكون الحكم على طريقة الكيل بمكيالين !
ففي الوقت الذي نستعير من داعش منطقها في التكفير, والتخوين, والاستعداء حتى في الرياضة، تجدنا نقف طوابير على أبواب السفارات الغربية مستجدين الحصول على تأشيرة تأخذنا إلى نعيم تلك الدول التي نهرب إليها من مزارعنا, ومتاريسنا الدينية والطائفية والفئوية والحزبية !..
في الوقت الذي يحدثني هذا الفيلسوف عن حرمة متابعة المونديال، أتذكر أنه يراسلني عبر الانترنت - التي هي صناعة غربية - من بلد غربي يقيم فيه مع عائلته منذ عشرات السنين !..
وأتذكر أن هذا الغرب الكافر هو ولي نعمته وأنّ الملابس التي تستر عورته هي من تقديمات الدولة التي تحترم الإنسان وحقوقه، وأن ما ينعم به من راحة وهو متكوّم في بيته إنما هو من صندوق الضرائب التي تجمعها الدولة من مواطنيها الذين يعملون كخلية نحل، وأنّه بأسنانه وأظافره يحمي وجوده في هذه الدولة الكافرة, لأنه يعرف تمام المعرفة أن لا بديل عنها يحفظ له كرامته, ويؤّمن له قوته وقوت عياله، وأنّ وطنيته الشديدة ليست إلا شعارات كهربائية يطلقها هو وأمثاله على صفحات التواصل الاجتماعي في أوقات فراغه الطويلة، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الوطنيون !.. أقول هذا مع شديد الأسف !..
وأما السبب الآخر فهو الأكثر مدعاة للسخرية .. لأنّ من يلقي نظرة على واقعنا اليوم تبلغ به الخيبة حدّاَ ليدّس رأسه في الرمال خجلاً ..
أيّ أولويات وأيّ واقع الذي نحياه في عصر الذبح والقتل على اسم الله ونبيّه؟ أي قضية تلك التي يجب أن نضحي لأجلها في زمن اختلاط الأوراق وتلاقي المصالح الدولية وتعارضها ؟
أي قضية في ظلّ غياب القضية الأولى والأهم والأقدس وهي محاربة الغدة السرطانية إسرائيل ؟!..
أين الله والإسلام والدين والأخلاق والقيم مما يجري اليوم على الساحة الإسلامية ؟
أيّ مستقبل نحلم به لأبنائنا وأجيالنا في ظلّ الحروب والمجازر والمذابح المدفوعة الأثمان سلفاً ؟!.
ثم يحدّثك الفيلسوف القاطن في بلاد البرد والسلام عن الأولويات وقضايا الأمة وحرمة المونديال! وتلك سخريّة الأقدار ..
.. ولكن ربما كان هذا المأخوذ بقرقعة الطبول الشرقية محقاً .. فنحن لا يجوز لنا أن نعيش، ونحلم، ونشجّع الرياضة، وننعم بالسلام، لأنّنا لم نخلق لهذا الهراء أبداً، إنّما خلقنا لنعيش وراء المتاريس, وفي مخيمات الخوف والجوع والذل واللجوء !.. خلقنا لنموت, وليس المهم أين, ومتى, وكيف، وبأمر من، المهم أن نموت !..
وأعود لأمير المؤمنين علي عليه السلام لأتسلح الصمت ثانية عقاباً لكلّ الغوغاء والحمقى، ولأعفي نفسي عناء الجدالات العقيمة، وأعود إلى شاشتي مجدداً لأتابع المونديال الجميل وعيني على المنتخب الألماني !..
* الشيخ محمد أسعد قانصو
تعليقات: