كان أديبنا وشاعرنا "أبو علي سلام الراسي" قد سهّل علينا مهمّة التعريف به وبأدبه فقال ذات يوم: "أما علوم الدنيا فتعلمتها في مدرسة الحياة". في العشرين كنت شاعراً، في الثلاثين صرت أديباً، في الأربعين صرت كاتباً، في الخمسين أينعت وصرت أتأمل في عقول الناس، وفي الستين محّصت تأملاتي وإعتباراتي فصرت الحكواتي أحكي وأكتب حكايات تمثّل الواقع الإنساني.
وهو حدّد بوضوح هويته الأدبية كي لا يلتبس الأمر على أي أحد من قرّائه أو من الباحثين في كتبه والساعين لإستخراج ثِمار ما زرع والتأمل في حصاد ما جمع فقال شعراً:
لا السهل والوديان والجبل ... ... وطني ولا الأنهار والسبل
كلا ولا الأطلال بل وطني ... ... الناس ما قالوا وما فعلوا
والعجيب هو أنه كان قد توقع مثل هذه الندوة والندوات التي ستعقد بعد وفاته للحديث عنه فأعطانا التسهيلات اللازمة لفهمه وعدم تضييع الوقت والتخمين والتبصير في معرفة الخيط الذي يربط بين كتبه وهي نحو عشرين كتاباً فقال:"سأصبر على ألسنة الرواة وسيحاول كل واحد أن يخترعني .الحق أنني أعطيت كلّ واحد من أبطالي شيئاً من ذاتي فارسموني من على شفاه أبطالي أي كما أنا لا كما تتخيلون".
إذن أبو علي هو بكلمة واحدة بسيطة وبليغة الدلالة حكواتي حكى الحكايات وكتب الحكايات والقصص والمرويات والأمثال التي تمثّل الواقع الإنساني، وكلمة حكواتي هنا قد يُساء تفسيرها. إنها لا تعني هذا الصائغ الماهر الذي راح يغرف من جُعب الناس إذا صحّ التعبير جواهر منسيّة كاد يأكلها الصدأ فنفض عنها الغبار وأعاد صقلها وصياغتها وهي من صنف الأمثال والحكايات والقصص الدارجة على ألسنة الناس أو المدفونة في أوراق التاريخ وقدّمها لنا لإستشراف ما فيها من دلالات وإشارات وعبرة وحكمة. وبهذا المعنى فإن ما فعله هو أنه أعاد للناس ما للناس ولكن بقوالب مختلفة وبأسلوب شيّق مزجَ فيه بين الفصحى وهي لغة الأدباء العاميّة وهي لغة الناس، بحيث يمكن القول أنه "أديب الشعب" وليس كما يقال "شيخ الأديب الشعبي" وهذا ما يميّزه عن غيره من الأدباء.
لم يفتعل الراسي صفة أدبية له، لقد كان بطبعه ومزاجه منغمساً في الشعب، في هؤلاء الناس الذين وجد على ألسنتهم وفي زواياهم وخباياهم موروثاً غنيّاً جداً جعله يقول: "يمكننا أن نعرف شخصية لبنان الحقيقية من قرويات القرويين وأمثالهم وأغانيهم،إنها مقومات حضارتهم على عراقة ثقافتهم." وكأنه يغمز هنا ومعه ألف حق وحق من قناة أولئك الكتّاب والمؤرخين والمتفلسفين الذين إصطنعوا شخصية مزيفة للبنان لا تشبهه أبداً.
وهذه مسألة خطيرة جداً كانت أحد الأسباب وربما السبب الأهم الذي جعل لبنان يعيش الإضطراب والقلاقل والحروب منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا. وكيف لا يكون الأمر كذلك واللبنانيون منقسمون أشدّ الإنقسام حول سؤال: ما هو لبنان؟ هل هو لبناني،عربي،فرنجي،أو هل هو مسلم،مسيحي أو هل هو ماروني،سنّي،شيعيّ،درزي أم ماذا؟؟
أبو علي إكتشف مادة أولية يمكن إذا تدبرناها واشتغلنا عليها أن نتمكن من تصوير لبنان على حقيقته لا كما يريده الساسة والكتّاب والأدباء والشعراء والفلاسفة الذين يعملون في خدمتهم، هذه المادة هي مرويات القرويين وأمثالهم وأغانيهم.وقد أضيف إليها الرقص الشعبي والعادات والتقاليد وكلها في الحقيقة جزء لا يتجزأ من الموردت الشعبي في بلاد الشام وتتصل بنسب حي إلى الموردت الشعبي الهائل في العالم العربي.
ولا نفهم شخصية الراسي الأدبية الذي أعطى لكل واحد من أبطاله شيئاً من ذات على حد تعبيره إلا إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية التي دفعته في شبابه للإنحياز إلى الإشتراكية ثم إلى الشيوعية وآفاق الإنسانية فكان من مجايليه وأقرانه وأصحابه شعراء كالشاعرين الشهيرين المبدعين "موسى الزين شرارة" و "عبد الحسين عبدالله" وسياسيون "كعادل عسيران" و "علي بزي" و "معروف سعد".
بقي القول أخيراً أنه في مقدمة كتابه "التواريخ" قال المؤرخ اليوناني القديم هيرودتس: "هذه بحوث هيرودتس من بلدة هليكارنا سوس أملاً في المحافظة على ذكرى أعمال الناس من النسيان."
والراسي كتب أيضاً "التواريخ" أو "السوالف الشعبية" أملاً في المحافظة عليها من النسيان، فحمل فانوسه ومضى إلى القرى باحثاً، منقباً، جامعاً.
في الستين من عمره أصدر كتابه الأول وجعل عنوانه "لئلا تضيع" ، أما ما كان بعده من أعمال فقد نُسج على المنوال نفسه وللغرض نفسه،حكايات وقصص وأمثال من هنا وهناك كي لا تضيع،كي لا ننسى،وكان برأيي أكثر شمولاً وأغنى مادة من غيره الذين طرقوا هذا الباب واشتغلوا على الموردت الشعبي في لبنان.
سلام على روح سلام الراسي وطيّب الله ثراه.
* كلمة الأستاذ كامل فاعور - رئيس بلدية الخيام الأسبق (ألقاها في ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي)
---------- ---------- -----------
كلمة إميلي نصرالله في ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي
كلمة محمد حيدر في ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي
ألبوم صور ندوة نادي الخيام الثقافي الإجتماعي حول نتاج سلام الراسي
تعليقات: