غسان كنفاني... ما قالته الساعة و«الفولسفاكن»

اثنان وأربعون عاماً مرّت غسان كنفاني.. على استشهاد الكاتب والمناضل على أيدي الموساد في بيروت
اثنان وأربعون عاماً مرّت غسان كنفاني.. على استشهاد الكاتب والمناضل على أيدي الموساد في بيروت


اثنان وأربعون عاماً مرّت على استشهاد الكاتب والمناضل على أيدي الموساد في بيروت. لكنّ صاحب «رجال في الشمس» عبَرَ الوقت لأنّه تكثيف روحي لقلقنا الإيجابي. هو هنا في فتى ملثم في شوارع الناصرة، وفي صورته المنتصبة فوق سور عكا، يقرع جرس الساعة، بقبضات رجال يسيرون على زمن فلسطين

كلما حدقت في الساعة، ليس بالضرورة أن يكون ذلك لمعرفة الوقت. أحياناً، تكون محاولة لتحسّس ما يجري حولك، ودلالتها تحضر في احتساب الجدوى الزمنية، عبر السؤال البديهي الذي يطرح نفسه: لمصلحة من يجري الوقت؟ ذات زمن، حضر غسان كنفاني (1936 ـــ 1972) أكثر، وعلى صوت الموت، يوم كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة من ظهر يوم السبت الثامن من تموز عام 1972 وبحسب عقارب الوقت المتوقفة في ما تبقى من يد صبية اسمها لميس نجم على سطح مبنى في الحازمية.

أما الساعة المعلّقة على الحائط، فكانت كأنها ما زالت تخفق بذاك الزمن، قرّر أن يكون الوقت هو البطل الذي جسده يوماً في رواية «ما تبقى لكم»، ورقاص الساعة الذي يسير مع النعش في جنازة، ليظل رمز الساعة تعبيراً عن عداوة الزمن ومراوغة، فيقول على لسان بطله «الوقت لا يمكن أن يكون ضدنا نحن الاثنين معاً، بصورة متساوية فقد يكونون أقرب إليك مما أتصور، ولكنك أقرب إليّ مما يتصورون» أي أن الزمن من الممكن أن يكون لصالح الفلسطيني ما دام مقاوماً لن يعرف الموت بل لن يمل الحياة أبداً.

يقرع جرس الساعة، بقبضات أسماء رجال يسيرون على زمن فلسطين، نماذج حيّة لمعادلة الإبداع والثورة، أولئك قد يغادرونها قسراً، لكنهم الأكثر وجوداً في زمنها المستمر أبداً، بل هم صورة وروح وحقيقة فلسطين بلا زيف وخداع. تدرك أنّ الساعة لن تعود إلى الوراء، لكنك قد تجد الوقت يسابق الأمام.

هناك حول دولاب يشتعل على أبواب مخيم شعفاط، أو فتى ملثم في شوارع الناصرة، وغضب مشتعل في باقة الغربية، ورسم لصورة غسان كنفاني فوق سور عكا يسمع هديرها الذي لا يخاف، ويتوزع كلوحة مزركشة على أطفال المخيمات.

كل الأزمنة عجزت عن انتزاعه من زمنه الفلسطيني. في كل مرة، ينتفض الزمن الكنفاني ليقرع جدار العجز بلا تردد، ويلعن «أبو الخيزران»، ويتوعد بإشراق الرجال الحقيقيين، جيل الانقلاب الثوري الذي أودعهم القلق المبدع الذي يأبى تزييف الزمن أو مصادرة الحق، كساعة منبه هائلة تدق مثل ضمير مثقف عضوي يظل مستمراً في الزمن ولا يغادره، ويكمل الطريق، لأنه تكثيف روحي لقلقنا الإيجابي، واختزال وجداني لأحلامنا حين ارتكب القاتل جريمته الاستباقية بُغية إيقاف زحف الزمن الجميل من جهة، واغتيال مع سابق الترصد لزمن آت من جهة أخرى، وخشية من غد جديد قبل أن يولد.ظل يرنو إلى الرجال والبنادق،لأنّ المقاومة صرخة كي يبزغ وميض فرح من جديد.

أنيس صايغ رأى أن غسان

كنفاني أكثر سعادة منّا، لأنه رحل من دون أن يرى الواقع المهزوم

لقد جرت في الزمن أوحال كثيرة. لم يعد البشر ينقسمون بين متفرج ومعترك. صار التّفرج مهنة مدفوعة الأجر من صناديق النقد الدولية، كي يصير ما نتصارع عليه ليس غاية نبيلة، بل احتمال لنضال بلا طائل أو عبور عبثي لمرحلة اللاجدوى. هكذا حركة الزمن النقدي، أن لا تكون متفرجاً فيه حتى لا تكون تافهاً، بل وجوداً فاعلاً ومقرراً، بل معتركاً أي مقاوماً. يوم خط في رسالته إلى ابنة أخته لميس نجم كتب «أيتها العزيزة: أنت تصعدين الآن، فيما نحن بدأنا نهبط، لقد أوشك دورنا أن يتم. كان دور هذا الجيل أقصر دور لأي جيل مرَّ في التاريخ، إننا نعيش لحظات حاسمة في تاريخ البشر، وهنالك الناس ينقسمون إلى معترِك، ومتفرج. أما المتفرج فلسوف يعيش جيله كله، ويمتصه حتى آخره. أما المعترك، فسرعان ما سيسقط. المعركة قاسية، وقدرته الإنسانية لن تحتمل كثيراً ولقد اخترت أنا، أيتها الصغيرة، ألا أكون متفرجاً، وهذا يعني أنني اخترت أن أعيش اللحظات الحاسمة من تاريخنا مهما كانت قصيرة».

انفجار «الفولسفاكن» اللعين يتردد صداه وجعاً ومرارة، كلما سمعنا حادثة إطفاء شمعة بفزاعة الظلامية، أو استباحة لقامة الثقافة بمخزونها الجمعي والوطني. ولعل هذا ما كان يغبط المرحوم الدكتور أنيس صايغ، إن غسان كنفاني أكثر سعادة منّا، لأنه رحل من دون أن يرى الواقع المهزوم، حيث قال له فيها: «إن انفجار الفولسفاكن حررك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورة جميلة من صور النضال والإيمان والثورة والقيم».

لم يرد لعيون غسان أن تشاهد آخر فضائح المستوى الهابط في السياسة، وتدني الأهداف وتشوهات القضية وما فعل فيها الزناة، والاهتراء في كل شيء، الذي أدّى لهذا الخواء والعجز المرعب الذي أطاح بالقيم الوطنية والقومية، والغايات الكبرى التي كان يؤمن بها بكل شرايينه. لقد كان انفجار «الفولسفاكن» نموذجاً عن إفساح المجال للسفهاء بالإمساك بدفة السفينة من بعدهم الطوفان طالما أنهم على رأس السلطة، ولتغرق بعدها الأوطان بالرموز والشعائر والطقوس الكفيلة باستحضار «داحس والغبراء»، وليحل التخلف مكان التقدم، وتنتصر العصبيات المذهبية والعشائرية والإثنية تفتك بما تبقى من الأنسجة الحية في مجتمعنا.

الساعة هي تحدي الزمن الجديد، لن ينهض مشروع تحرري من دون قادة الفكر السياسي، والعقل المثقف وجمال الإبداع الثوري. حاجتنا لقادة يملؤون الفراغ في وجه الخراب، وفي زمن سيادة غرائز القبيلة، لسحق روح الثقافة الوطنية كتمهيد ضروري لتفشي عدوى وباء الجهل، وحتى يتسنى لفصول المسلسل التكفيري أن يفرّخ أصناماً لا قادة، يبحثون عن فردوسهم المفقود في الفتنة الممهورة بختم الخليفة الجديد والحاكم بأمر «شلومو»، ووصايا السياف الذي يجز رأس الحق بفتاوى سلاطين البترو دولار.

غسان كنفاني لم تسكته الشحنة الناسفة في سيارة «الفولسفاكن». المثقف الذي يؤمن بأن السكوت عن مصادرة كرامة مطلق إنسان هو بمثابة انتهاك لإنسانيته بعينها، وأنّ من يتنازل عن جزء من حريته لا يستحق الجزء الآخر، ولن يأمن ركونه في الجزء الأصغر من الوطن إن كان الأكبر يعاني من وباء فتاك. هنا الفارق يظل وطنياً بامتياز، بين واجب المقاومة للاحتلال لأنه في المعترك، وواجب المتفرج الذي يشاهد ما يجري كمباراة كرة قدم، ومتفرج سلبي يقوم في خدمته لتسيير شؤون احتلاله وتحت مسمى «التنسيق الأمني» أو حتى العجز الأمني للذود عن

الذات.

هنا حادثة تروى للتّندر فقط، إنّه في زمن غزو التتار لبغداد ونهاية العصر العباسي، كان السيّاف يبدأ بقطع الرؤوس. وعندما يتعب آخر النهار، كان يقول لطوابير الناس: اذهبوا إلى بيوتكم وعودوا في الغد لنكمل، فكان الناس في حالة استلاب جماعي يعودون في اليوم التالي ليقطع رؤوسهم من دون أن يمارس أيّ منهم حداً أدنى من المقاومة. هؤلاء ماتت بداخلهم نزعة التمرد الإنسانية وهم أحياء يرزقون، الزمن الذي تجاوز الراهن أدرك معنى تغييب الإنسان الفلسطيني كفاعل يحقق شرعية البقاء والبناء للذات الوطنية.

اختزل غسان كنفاني دراما الشعب الفلسطيني بحزنه وفرحه، وبيأسه وأمله، وبحلمه وانكساره. ظل يرنو إلى الرجال والبنادق، لأنّ المقاومة ليست غاية بذاتها أو مجرد احتمال، بل هي صرخة كي يبزغ في الدنيا وميض فرح من جديد، وثورة أمل وموسم زيتون وعودة إلى أرض البرتقال الحزين. لن تتوقف الساعة لأن زمن الثورة يتواصل مع أطفال يلعبون أمام عيون بحرهم المحاصر لعبة «فدائي ومحتل». غسان باقٍ مع مخيم هناك في الوطن يبحث عن الوطن، وآخر هنا في الشتات يفرّ إلى شتات جديد ولا يقرع البحر.

تعليقات: