بلغ عدد زوار معلم مليتا نحو مليون (كامل جابر)
لم يكن اعتباطياً أن يلجأ العدو إلى تدمير معتقل الخيام تدميراً كاملاً في عدوان تموز 2006، محاولة منه لمحو عاره ضد الإنسانية من المكان الذي ظل يحكي طوال 6 سنوات (قبل تدميره) قصص التعذيب وظلم الاحتلال وممارساته التعسفية، أمام كل الضيوف الذين زاروه من مختلف أصقاع العالم والمناطق اللبنانية.
لم تكن قيادة المقاومة والجمعيات التي تدور في فلكها، لتكتفي بمعتقل الخيام كواجهة حقيقية معنوية وحيدة، في مقارعة المحتل وسرد حكايات المقاومة والمقاومين، بل دأبت غداة التحرير على رسم مشاريع يمكن أن تصب في هذا الهدف، لكنها ستكون مشاريع «سلمية» مع المقاومة في أماكن شهدت معارك وسقط فيها مقاومون ومواطنون خلال مقارعتهم المحتل. من هنا، وبعد تدمير معتقل الخيام في عدوان 2006 (الذي أعدت له خرائط قبل العدوان ثم بعده)، كان لا بد من تحقيق بعض المشاريع الرديفة، المطروحة أصلاً لهذا الهدف، فأتت المشاريع «الضخمة» على نحو معلم مليتا السياحي في إقليم التفاح، وحديقة إيران في مارون الراس (بنت جبيل)، وحديقة شهداء بنت جبيل، ومشاريع أخرى قيد الدرس أو التخطيط، تسعى إلى الترفيه والسياحة «الجهادية» أو «سياحة المقاومة»، إنما من خلال أعمال فنية وطبيعية بامتياز.
يشير مسؤول وحدة الأنشطة الإعلامية المركزية في «حزب الله» الشيخ علي ضاهر إلى أن «فترة الصراع مع العدو الإسرائيلي، التي امتدت بين 18 سنة وعشرين، كانت المقاومة خلالها عنصراً مجهولاً عند الناس، كفعل وممارسة ويوميات وحكايات ومشاهدات وعذابات. وبعد التحرير في سنة 2000 بدأ التفكير بضرورة تقديم هذه المقاومة للجمهور، هنا في لبنان أو في خارجه، للعرب والمسلمين أو الأجانب. من هنا كان الهدف الأساس من إقامة مشروع مليتا، ضمن مخطط توجيهي له علاقة بتعريف الناس من لبنان أو خارجه إلى المقاومة وفعلها».
مليتا
بدأت الفكرة والنقاش، حول معلم مليتا، المتحف أو المجمع الثقافي الفني التعريفي بالمقاومة، ومكان إقامته، في العاصمة بيروت على نحو ما تفعله كل الدول التي تحررت من احتلالاتها وأنشأت متاحفها في عواصمها. «وبعد نقاش طويل شارك فيه الشهيد عماد مغنية، كان القرار أن نأخذ هذه الذاكرة إلى مكان الحدث والفعل والحكاية، فاستبعدنا فكرة بيروت. وعلى الأرض وخلال عملية استنساب المكان، وجدنا أفضلية إقليم التفاح، وتحديداً منطقة مليتا ـ جبل صافي، هذه القلعة الحصينة والمتينة، التي عصيت على العدو ولم يستطع اجتياحها أو احتلالها»، يقول ضاهر.
أما لماذا وقع الاختيار عليها؟ «فيردها إلى ثلاثة أسباب: الأول، هو أنها عاصمة المقاومة خلال فترة طويلة، وحصنها. كانت هناك أماكن أخرى للمقاومين إنما لم تكن لهم فيها ركيزة ثابتة (مثل البياضة ـ الناقورة، النبطية، الخردلي ووادي الحجير) لكن هذه المنطقة احتضنت المقاومين لوقت طويل؛ والثاني هو الطبيعة الجغرافية، الساحرة الخضراء التي تنتشر فيها غابات السنديان والملول؛ والسبب الثالث هو تاريخ هذه المنطقة، النضالي والجهادي والتصدي للعدو».
تم شراء العقار بمساحة بلغت نحو 60 ألف متر مربع، وبدأ العمل قبل 2006، من التحضير إلى المخطط التوجيهي إلى الطبيعة الهندسية للمشروع، و«كان همنا من الأساس تقديمه كمعلم وطني، وليس كمعلم خاص، معلم لذاكرة المقاومة في لبنان وليس لفئة محددة، أو أشخاص محددين. ضمن رؤيتنا للمخطط التوجيهي، إن مليتا واحدة من المحطات المتعلقة بذاكرة المقاومة والمقاومين وذاكرة التضحيات».
معتقل الخيام مجدَّدًا
كان من الضروري إقامة معلم يتعلق بذاكرة الاعتقال. تشير «جمعية سياج» المهتمة بالسياحة «الجهادية» في لبنان، إلى أنه «بعد التحرير، رأينا أن أنسب مكان لذاكرة الاعتقال ولعاصمة الذاكرة هذه، هو معتقل الخيام، اشتغلنا على مخطط توجيهي له، وأعددنا الخرائط ومختلف المواد المعلوماتية، التي لها علاقة بالناس التي دخلت إليه خلال الاعتقال، لمختلف المشارب والتيارات والأحزاب والقوى، وعندما قررنا البدء أتى عدوان تموز 2006، اضطررنا إلى التوقف، عدنا وأعددنا له مخططاً جديداً، وغيرنا بالتصميم، وقد أراد العدو من تدميره مسح بصمة العار التي صنعها في فترة الاحتلال، أدخلنا العدوان الجديد ضمن الرؤية الهندسية ونحن نشتغل عليها، وبانتظار التمويل اللازم لكي نفتتح متحف الخيام كمعلم للاعتقال».
إلى المعتقل، هناك مشروع متحف للشهداء وآخر في وادي الحجير وبعلبك. يعتبر القيمون على معلم مليتا السياحي، الذي افتتح عام 2010، أنه حقق نسبة عالية من هدف أنشائه، من خلال التفاعل وعدد الزوار والوجوه التي أتت إلى مليتا، «من المحب أو المتواطئ أو المحايد أو حتى ممن ليس مع خط المقاومة». وقد تجاوز عدد زوار مليتا المليون، نصفهم من لبنان، من أكثر من منطقة، ومن الفئات الاجتماعية كافة، والنصف الثاني من خارج لبنان، من دول عربية وإسلامية وحتى من دول أوروبية أو آسيوية.
حديقة إيران
لم يكن صدفة اختيار موقع حديقة ايران في بلدة مارون الراس، على تلة ترتفع 950 متراً عن سطح البحر، تشرف على حيز كبير من شمال فلسطين. إن لهذه البقعة الجغرافية أكثر من دلالة معنوية تتعلق بالمقاومة والتصدي والمواجهات، وحتى بالاحتلال، وهي كانت آخر نقطة جرى الانسحاب منها (بعد شهر من وقف اطلاق النار) بعد احتلالها من العدو الإسرائيلي خلال عدوان تموز 2006، «يجرّ خلفه أذيال الخيبة»، يقول أحد الأدلاء في الحديقة.
قامت حديقة ضخمة على مساحة أربعين دونماً، تحمل اسم إيران وتنتشر فيها أسماء المحافظات الإيرانية والدلائل حولها، بتمويل من «الهيئة الإيرانية لإعادة الإعمار» بمساهمات من محافظات إيرانية، وقد وضع رئيس بلدية طهران الحجر الأساس لها لتكون متنفساً متواضعاً للاهالي في البلدة، ومكافأة لهم على صمودهم في عدوان تموز ٢٠٠٦.
في عام ٢٠٠٨، زار رئيس «الهيئة الإيرانية لإعمار الجنوب»، المهندس الراحل حسام الدين خوش نويس، الموقع، فأثار اعجابه، لذا قرر توسعته ليضم ٣٣ خيمة من القش، على عدد أيام عدوان تموز. وارتأى نويس أن تضم الحديقة مجسماً لمسجد قبّة الصخرة، و٦ غرف زجاجية بداخلها العشب الأخضر (على عدد شهداء البلدة). وفيها نصب يخلد الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة الذي اختطفوا في لبنان وتتهم إيران إسرائيل بالوقوف وراء هذه العملية.
إلى الترفيه وانتشار آماكن للعائلات التي تتوافد إليها، ثمة إصرار عند القيمين على الحديقة على تقديم شحنات «مقاومة» تتعلق برمزية الحديقة، و«جهادية» من خلال تقديم الشروح الوافية عن التلال والمناطق الفلسطينية التي لا تبعد عن الحديقة أكثر من مئات قليلة من الأمتار، «من مكان كان في السابق محرماً على أهله بسبب عنجهية العدو وقامت فوقه حديقة ضخمة، إلى مكان مقابل قريب سيبقى حلم تحريره قائماً. هنا على مرأى من عيوننا فلسطين، جبل جرمق الأعلى في المنطقة، جبل ميرون، حدب يارون، سعسع، الصدح، كفر برعم، صلحا، الجش، الرأس الأحمر، علما، والعديد من المستعمرات الإسرائيلية التي قامت على أراض فلسطينية، ومنها مستعمرة أفيفيم»، وفق المشرف على الحديقة أحمد سليم.
ويشير سليم إلى أن «صوت مقاومتنا بات يصل إلى المستعمرات الإسرائيلية، شاؤوا أم أبوا، وخطابات السيد حسن نصرالله يسمعونها واضحة في مستعمرة أفيفيم مذاعة من هنا عبر مكبرات الصوت». ويؤكد أن الحديقة «شكلت متنفساً وصلت أصداؤه إلى الجنوب كله، إلى البقاع وبعلبك وبيروت والساحل اللبناني. أما الزوار الفلسطينيون، فيأتون ليتعرفوا إلى ما يمكن مشاهدته من فلسطين، ولكي تبقى فلسطين غير بعيدة عن قلوبهم وقلوبنا».
ويلفت رئيس بلدية بنت جبيل عفيف بزي إلى أن الهدف من وجود حديقة إيران «هو تحويل الأماكن التي أرادت إسرائيل تدميرها وتشويهها وتحويلها إلى أرض محروقة لا إنماء فيها، إلى أماكن تنبض بالحياة. المتنزه الأول في الجنوب هو حديقة مارون، وقد شكلت مناخاً جميلاً ومتنفساً للأهالي وعامل استقطاب يكاد في أيام العطل لا يتسع لتوافد الجنوبيين إليه أو الفلسطينيين والعرب. وما وجود مجسم للمسجد الأقصى فيه إلا للدلالة على أننا لن ننسى القدس. ومن الأبراج العالية في الحديقة يمكن رصد القرى اللبنانية السبع، المحتلة، والقرى الفلسطينية في أصبع الجليل».
شهداء بنت جبيل
كان هم البلديات في المنطقة الحدودية بعد التحرير أن تقدم ما يجذب الناس إلى المنطقة. «كانت هناك نهضة بين 2000 و2006 عند البلديات، حتى أتت حرب تموز لتأكل الأخضر واليابس، وأبادت كل شيء. ولكي نخرج من هذا الركام، كان لا بد من التفكير في إعادة رسم خريطة معمارية للمنطقة، ومن ضمنها مدينة بنت جبيل التي كان العدوان عليها قاسياً وظالماً، همجياً بربرياً، دمر المدينة بعدما لم تقدر إسرائيل على دخولها».
عندما بدأت عملية إعادة الإعمار خرجت بعض الأفكار عن متنزهات وحدائق للترفيه. «في الوقت عينه للدلالة على الذاكرة لكي لا ننسى وينسى أولادنا ماذا فعلت إسرائيل ونستفيد من العبر. من هنا انطلقت فكرة أن الأماكن التي قست عليها إسرائيل ودفعنا فيها الدم، وسقط لنا فيها شهداء يعزّون علينا، أن تتحول هذه الأمكنة التي جبلت بدمائهم إلى رمز يكرمهم ويكون متنفساً للناس نحو الحياة»، يقول بزي ويؤكد أنه في مكان حديقة بنت جبيل، سجلت ملاحم بطولية. «فإسرائيل أرادت أن تجعلها أماكن للموت والدمار ونحن أردناها أن تتحول أماكن للحياة والترفيه وللدلالة على الأبطال المقاومين».
وينوه بزي في استجابة الأهالي للفكرة. «وتم اختيار المكان الذي استشهد فيه قائد المواجهة في بنت جبيل، خالد بزي، الذي كان قائد عملية الأسر في عيتا الشعب. وأبى أن يتخلى عن مدينة بنت جبيل أو يتركها، وسقط معه مسؤول شعبة مدينة بنت جبيل سيد أبو طعام والشهيد كفاح شرارة. كان الثلاثة يديرون العمليات من هذا المكان الذي هو عبارة عن بيوت من الحجر القديم. وضعنا تصميماً لهذه الحديقة وباشرنا بتنفيذه وكانت حديقة بالغة الأهمية للنشاطات المختلفة وتغص ليلاً بالزائرين وشكلت متنفساً للأهالي». ويطمئنّ بزي إلى أن الهدف الذي من أجله قامت الحديقة قد تحقق، لجهة تخليد ذكرى الشهداء، كل شهداء بنت جبيل، ولتكون متنفساً للناس ومساحة خضراء في وسط المدينة القديمة.
ثمة محطة أخرى في بنت جبيل وضعت البلدية التصاميم اللازمة لها، وهي قاعة مسرحية «بانوراميك» تحكي قصة الاحتلال بكل فصولها والمقاومة، ستكون بنظر القيمين عليها محطة لقاصدي المنطقة. و«نسعى إلى تأمين التمويل بعد اختيار المكان، الذي يحتاج بين مليون دولار ومليون ونصف المليون دولار».
حديقة إيران في مارون الراس تطل على فلسطين المحتلة (كامل جابر)
تعليقات: