عناصر من الجيش في محيط عرسال (ا.ف.ب)
معمودية الدم بين الجيش وأبناء بلدة الـ3000 عسكري
لم تعد هواجس أهالي عرسال، ومعها قرى الجوار في البقاع الشمالي، كلاماً أو حبراً على ورق. خرج المسلحون من تحت أدراج المنازل التي احتضنت النازحين إنسانياً، من التجمعات اللاجئة التي تبرع بها العراسلة لبناء مخيمات تؤويهم، هبطوا من الجرود التي ترك أهل الأرض خيراتها للاجئين من الجحيم السوري يستعينون بها على عوز النزوح، وسيطروا على البلدة التي دفعت أثماناً باهظة لاستقبالهم.
لم تعد تلك الآليات، من «بيك آب» إلى سيارات الدفع الرباعي، تجوب شوارع عرسال بزجاجها القاتم، مجهولة المحتوى. أخرج المسلحون رؤوسهم وسلاحهم من نوافذها يستعرضون فائض القوة على المدنيين العزل من أهلها. هناك استبدل العديد من الرجال المسجلين كنازحين مع الأمم المتحدة بطاقات لجوئهم بسلاحهم المخزّن، واستباحوا محيطهم.
صوبوا بنادقهم إلى صدور مضيفيهم. قتلوا أربعة رجال من بينهم حتى كتابة هذه السطور، في معمودية دم مع شهداء الجيش اللبناني الذين سقطوا فيها من عكار والبقاع والمناطق اللبنانية كافة. شهداء عرسال: كمال عزالدين، وجمال نوح ومحمد نوح ومحمد الفليطي، هم من خرجوا للدفاع عن فصيلة الدرك في البلدة وتصدوا للمسلحين لدى محاولتهم مهاجمة بعض حواجز الجيش.
وفي أحياء البلدة ومن بين منازلها نصبوا مضادات الطيران وقواعد الصواريخ ومدافعهم، ليأخذوا المواطنين دروعاً بشرية. أطلقوا النار وقنّصوا كل من حاول الخروج من محيط نقاط تمركزهم. ومن هناك، من بين الأحياء، استهدفوا مواقع الجيش بالقصف العنيف. الجيش لم يرد على مصادر النيران الخارجة من بين الناس، حرصاً على حياتهم من جهة، ورفضاً لكمين المسلحين للإيقاع بينه وبين ناسه.
ردُ فعل الجيش لم يعجبهم، فباشروا مع هبوط الليل بإلقاء القذائف يمنة ويسرة بين أحياء البلدة للإيحاء بأن «الجيش يقصف أهله»، وفق ما أكد احد أبناء عرسال لـ«السفير»: «القذائف قريبة جداً وما تلبث أن تنطلق حتى تسقط بين الناس، مما يدل على أن مصدرها قواعدهم الجوالة على الآليات». ابن عرسال كان حريصاً على عدم ذكر اسمه «والله ما بيخلوا دمي يلحق الأرض».
ناس عرسال، وبالتحديد من وجد سبيلاً للخروج منها، وضَّبوا حاجيات أطفالهم، ونزحوا عن بلدتهم التي نادراً ما يغادرونها، تاركين منازلهم وأرزاقهم وتائهين نحو المجهول. وهكذا بقدرة قادر، تحول مضيفو اللاجئين إلى نازحين، كما يقول ابن عرسال خالد البريدي الذي حمل عائلته وحلّ ضيفاً عزيزاً على صديقه محمد المولى، ابن اللبوة، بوابة عرسال.
يعتقد البريدي أن ما حصل هو من ضمن «خطة حضّرها المسلحون، وليس كرد فعل على اعتقال جمعة». فالمسلحون، وفق البريدي، «ربما كانوا يعتقدون أنهم يحسمون المعركة مع الجيش خلال ساعتين، مراهنين على جو حاضن في عرسال تبعاً لتعويلهم على الانقسام المذهبي في البلاد». لكن حسابات بيدرهم لم تتطابق مع الواقع «استعاد الجيش المبادرة على الأرض، برغم أن المعركة لم تنته، وقدمت عرسال شهداء من رجالها دفاعاً عن الشرعية الأمنية الرسمية لتعلن موقفها الرافض لهم بوضوح».
أهالي عرسال أنفسهم «تعجبوا من كل هذا السلاح الذي ظهر بكثافة في شوارعهم»، وفق ما أكد أبو حسين الذي عجز عن الخروج من عرسال مع عائلته بعد بدء معركة عين الشعب حيث تقع الطريق من عرسال إلى اللبوة في المسافة الفاصلة بين المسلحين والجيش، وحيث دارت الاشتباكات عنيفة طيلة بعد ظهر أمس.
يصف أبو حسين الوضع في بلدته «فوضى عارمة واشتباكات مكثفة من كل حدب وصوب، والمسلحون في الطرق يجوبون الشوارع من دون أن يتجرأ أي مواطن على توجيه كلمة واحدة لهم». يتحدث الرجل عن آليات ساندت المسلحين الخارجين من المخيمات «وعليها مدافع ومضادات وقواعد لإطلاق الصواريخ». يروي عن جاره الذي تعرض للقنص مع عائلته خلال مغادرته البلدة «قررنا أن نترك لهم الجَمَل بمن حَمَل، ولكنهم يريدوننا دروعاً بشرية».
مخيمات النازحين نفسها، بالأطفال والنساء فيها، تحولت إلى دروع بشرية مع قصف مواقع الجيش منها وبالقرب منها، وهو ما أدى إلى إحراق أحد هذه المخيمات، وبالتحديد المخيم المنشأ على طريق موقع المصيدة نحو الجرود. أدى إصابة قارورة غاز وانفجارها إلى احتراق المخيم وسقوط عدد من المدنيين ما بين قتيل وجريح.
يقول عرسالي قريب من «14 آذار» إن 90 إلى 95 في المئة من البلدة ضد المسلحين، مؤكداً أنه تعرض شخصياً للتهديد بالقتل لأنه طلب من المسلحين عدم قصف الجيش من محاذاة منزله، «قالوا لي لدينا أوامرنا وإذا لم يعجبك نتصرف معك بطريقة أخرى». سكت الرجل، ثم استغل انشغال المسلحين بعيداً عن حيه، وحمل عائلته ونزح عن بلدته.
رنين عزالدين روت حادثة أخرى. كانت السيدة الأربعينية تبتاع ربطة خبز في سوق الضيعة عندما سمعت صراخاً وتهديداً بالقتل تلاه إطلاق نار. أطلق المسلحون النار بالقرب من عرسالية مكشوفة الرأس «إذا رأيناك مرة ثانية من دون حجاب سوف نقتلك»، قالوا لها وانصرفوا. قالت رنين إنها استعارت عباءة وحجاباً من زوجة صاحب الدكان لتعود إلى بيتها.
لمختار عرسال حسين سليمان كرنبي وجهة نظره في ما يحدث: «الدولة هي التي تساهلت في التعامل مع مجمل الوضع في عرسال حتى وصل إلى هنا». يذكّر بمقتل مصطفى عزالدين في قلب عرسال «ولم تحرك ألأجهزة الأمنية ساكناً». يرى المختار أنه لا يمكن تدمير بلدة من أربعين ألف نسمة مع أهلها و150 الف نازح من أجل اعتقال شخص»، ليؤكد أن عرسال مع الجيش «لدينا ثلاثة آلاف عسكري في عرسال، نحن أبناء الدولة، والمقاومة هي التي استردت رفاة أبنائنا المقاومين من فلسطين المحتلة». يؤكد كرنبي أن أمن عرسال هو مسؤولية الدولة وحدها، فـ«البلدة عاجزة عن مواجهة المسلحين، إذ طالما كان مباحاً لهم حمل السلاح وتخزينه فيما نحن كعراسلة ليس لدينا شفرة تجرح، فكيف نواجههم؟».
يصف محمود الفليطي الوضع «بالصعب جداً»، فالمجتمع «غير مسلح وليس منظماً ولا يمكنه الدفاع عن نفسه، وبالتالي يخضع لهؤلاء المسلحين». يخبر الفليطي عن أحد شباب البلدة الذي نزح داخل عرسال «ثبتوا مضاد 23 بالقرب من منزله، فتركه وغادر». النزوح شمل كامل حي «السرج» أيضاً، وفق الفليطي، «هو حي قريب من ثكنة الجيش المستهدفة بالقصف والهجوم». ويشير إلى أن أحياء أخرى ساخنة شهدت نزوحاً كثيفا أيضا «كل يلي قدر يفل فَلّ وخصوصاً النساء والأطفال». يؤكد الفليطي أن كثراً من ابناء عرسال تلقوا اتصالات من أهالي بلدات الجوار عارضين استضافتهم «الخطر واحد ونحن أهل، وأنا شخصياً اتصل بي أكثر من عشرة أصدقاء من جيراننا لدعوتي إلى منازلهم».
بمقابل النزوح، تجمع عدد من رجال عرسال وبحثوا في فرض أمن ذاتي داخل أحيائهم، وفق ما أكد أحد فعاليات البلدة «ولكننا سنرى موقف الأهالي بشكل عام، إذ لا يمكن أن نتركهم يستبيحون أحياءنا، يجب أن نحمي أنفسنا وندافع عن بلدتنا». قرار الأمن الذاتي دونه عوائق كثيرة أهمها «عدم قدرة العراسلة على مواجهة الألوف المؤلفة من المسلحين»، يقول عرسالي آخر «والله بيصير الدم للركب».
في مقابل النزوح، والمخططين للأمن الذاتي هناك من «يلتزم منزله ويختبئ وسط الدوي الكبير»، وفق محمد خالد. يقول خالد إن عرسال احتضنت النازحين إنسانياً، وإن المسلحين قد «دفشوا على البلدة دفشاً، ونحن أصبحنا مرغمين رغماً عن أنوفنا على معايشة الوضع الذي نحن فيه، فماذا نفعل؟».
بعد ثلاث سنوات على تقاسمهم لقمة العيش ونقطة الماء والمأوى وفرصة العمل مع النازحين السوريين، سقط من سقط من بينهم شهيداً ليؤكدوا دعمهم للجيش وتأييدهم لمظلة الشرعية وحدها. نزح من نزح منهم خارج بيوتهم وأرزاقهم، وعجز كثيرون عن المغادرة بسبب إقفال الطريق بعد ظهر أمس، أما البقية الباقية منهم فسجينة المجهول ومعهم المنطقة برمتها.
تعليقات: