معرض «كمشة لون» في الخيام + Pix


منذ تخرّجي من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية عام 1983 كانت أمنيتي أن أُقيم أوّل معرض فني فرديّ لأعمالي في بلدتي الخيام، إلا أنّ واقع الاحتلال الإسرائيليّ لها حال دون تحقيق هذا الحلم. فكانت أولى معارضي في مدينة باريس في نهاية الثمانينيات، تبعته أربعة معارض أخرى فيها، وكانت الخيام دائماً في البال؛ فقد حملت بعض أعمالي اسماء بلدتي والجنوب والمعتقل والدردارة... وأثناء عودتي إلى لبنان لم يختلف الأمر في بيروت عن سابقتها باريس حتى وصل عدد معارضي الفرديّة إلى أحد عشر معرضاً بعيداً من الخيام في مفهومها الجغرافيّ. وها قد مرّت أربعُ عشرة سنة على التحرير دون أن يتحقق هذا الحلم (باستثناء المعرض الوحيد المشترك عام 2011 الذي أقامته بلديّة الخيام مشكورة في مركز المرحوم محمد الطويل تحت عنوان "النتاج الخياميّ الثقافيّ"، والذي شاركت فيه بأعمال قليلة لا تتعدّى أصابع اليدين) إلى أن كانت المبادرة اللطيفة من الأخوة في الهيئة الإدارية لنادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ، فكان من الطبيعيّ أن أقوم بتلبية هذه الدعوة دون تردد.

صحيح أني أقمتُ معارض في الخارج، وقد مثّلتُ لبنان في أكثر من دولة أوروبيّة وعربيّة، إلا أنّ همّي الأساسيّ لم يكن بتعرّف المواطن الغربيّ على أعمالي ونتاجي، وأن أصبح عالميّاً بقدر ما أكون قريباً من ابناء بلدي وبلدتي الذين يحتاجون إلى تشرّب الجمال والمعرفة وأن تعتاد عيونهم شعاع الألوان ورونقها بعد أن شوّهتها اعتداءات إسرائيل وبشاعة عنفها ولهيبها وألوان قذائفها الكالحة السواد...

إنّ وجود هذا النادي في الخيام لهو شيء أكثر من ضروريّ وإلزاميّ في بلدة تحوّلت إلى مدينة بكل المعاني والدلالات، ومن أدنى الأمور أن يكون هناك نادٍ يُعنى بالثقافة وهمومها التي بدونها لا يستقيم وطن ولا ينهض؛ فالثقافة، وعلى رأسها الفن، عنصر هام في هذا الزمن بالذات أكثر من أي وقت مضى، كما سأبيّن في الحادثة التي حصلت معنا بعد عدوان تموز 2006 الذي نتج عنه تدمير لمحترفات فنيّة في الجنوب والضاحية الجنوبيّة لبيروت، ومن ضمنها مُحترفنا ومنزلنا، حيث فقدنا، زوجتي سوزان وأنا، أعمالنا الفنيّة ومكتبتنا الغنيّة تحت الأنقاض، فكانت إن ظهرت مقالات في بعض الصحف العالميّة في الولايات المتحدة كصحيفة U.S.A TODAY وصحف أخرى في دول أوروبية ولاتينيّة وعربيّة، حول هذا التدمير والهولوكست الفني الذي اقترفته إسرائيل بحقنا، فكان أن جنّ جنون اللوبي الصهيونيّ في الخارج، وتداعت الأقلام بالردّ على هذه الهجمة التي نالت من إسرائيل، وجاء في معظمها تكذيبٌ للأخبار حول تدمير المحترفات بقولها أن لا فنّ عند العرب، ولا موسيقي عندهم ولا شعراء ولا رسامون يمكن الحديث عنهم ، فالعرب، حسب زعمهم، لا فن لديهم ولا شيء يعطونه ... الخ. لقد أنكروا علينا إبداعنا وتعبنا وإنسانيّتنا، وهي معزوفة لطالما سمعناها وحفظناها، وإن دلّ هذا على شيء فعلى أهميّة الثقافة والفنّ في صراعنا مع العدوّ الصهيونيّ وفي مشاركتنا في صناعة هذا العالم الذي نعيش فيه؛ فالرصاصة تؤذي هذا العدو، وقد تصيب منه مقتلاً، لكنّ صناعة الفن والجمال هي أكثر مقتلاً له لأنها تنتج أجيالاً واعية تعرف كيف تدير هذا الصراع وتصنع الرصاصة بالعلم بدل أن تبتاعه من الخارج، تعرف أهميّة الجمال والحفاظ على وطن جميل مشعّ موحّد وواعد. يقول المهاتما غاندي: "... الجهل أسوأ أنواع العنف في العالم".. وبناء عليه نقول إنّ الفن والثقافة هما السلاحان الأمضيان في وجه هذا الجهل...

يحمل معرضي الحالي عنوان "كمشة لون" وفي ذلك تحيّة إلى كلّ من يُقدّر الفن والجمال في هذه البلدة والجوار وفي الوطن الصغير. هي تحيّة لأبناء الخيام ولشهداء الخيام الذين لوّنوا أقحوان الحقول بدمائهم، ولا سيّما شهداء مجزرة الخيام عام 1978 يأتي على رأسهم الشهيد الدكتور شكرالله كرم الذي يحمل هذا الصرح الثقافيّ اسمه عربوناً لشهادته ووفائه وعطاءاته...

الأعمال المعروضة (الجزء الأكبر منها يُعرض للمرّة الأولى) تنتمي بمعظمها إلى الأرض والإنسان المصنوع من هذه الأرض والمجبول بترابها؛ فهناك لوحات تمثّل فلاحة خياميّة ولوحات تمثّل الخيام والدردارة وأمكنة مهدّدة بالزوال كنبع الرقيقة ومدخلها، ونبع الحمّام، والأبواب العتيقة وجدران الحجر الصخريّ... علني بذلك أُلقي الضوء عليها بما تمثله من ذاكرة حيّة للزمن الخياميّ الجميل. إضافة إلى صخور الجنوب التي سنبني عليها هذا الوطن، ووجوه محليّة وعالميّة تمثل رموزاً إنسانية أعطت البشريّة تجارب وتضحيات أفادت الكثيرين، وألهمت الأجيال في ميادين شتى في الثورة وحبّ الأوطان والسلام والفن والشعر، كأن نذكر على سبيل المثال: غاندي، مانديلا، محمود درويش، فيروز، فريد الأطرش... هي نماذج إنسانيّة فكريّة نحتذي بها وبعطاءاتها..

إنّ من تابع معارضي السابقة قد يتساءل عن سبب هذا الانقلاب في إسلوبي الفنيّ؛ إنّ تركيزي على الطبيعة والإنسان بأسلوب مقروء، بعد مراحلي التجريديّة، لهو ضرورة فرضته بيئتنا الاجتماعية والفكريّة، وما تحويه من مشاكل وتعقيدات شتى. إنّ إنسان هذا الوطن يختلف من حيث تركيبته الفكريّة عن المواطن الأوروبيّ الذي إعتاد منذ زمن بعيد الأساليب الفنيّة المتطوّرة وصولاً إلى مراحل ما بعد بعد الحداثة، فكان حريّ بي أن أخاطب ابن هذا الوطن باللغة التي يُمكنه أن يتفاعل معها وصولاً إلى متابعة طريق الفنّ والجمال سويّة... يقول الناقد الإنكليزي هربرت ريد: "إنّ الفنّ هو وسيلة اتصال بين الناس".

نرجو أن ينال هذا المعرض إعجابكم وتقديركم، ففي وجودكم تفاعل وتشجيع لمكامن الجمال فينا، هذا الجمال الذي يُقدّره الخالق الجميل ؛ "إنّ الله جميلٌ يُحبّ الجمال"، من هنا جاء تقدير الفلاسفة والمفكرين عبر العصور لأهمية الفنّ الذي اختصره هيغل بقوله: "يكاد يكون الفنّ محرّك التاريخ ، وليس أي شيء آخر... والفنّ بالنسبة إليه هو حالة الفكر الأولى بلا منازع..

* كلمة ألقاها الدكتور يوسف غزاوي في نادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ في افتتاح المعرض الفني الذي أقيم تحت عنوان «كمشة لون».










تعليقات: