من وحي الخيام للدكتور يوسف غزاوي
حين تبتلع الأرض أرضك، وتضيق بك الأمكنة، إحمل وطنك في الذاكرة، أعد تلوين خارطته من جديد، ارسمه لوحة أو اكتبه قصيدة.. تلك لواعج الأوطان الحبلى بالأحلام، حين لفظت فلذات أكبادها نحو الهاوية من دون أن تقطع حبلها السري.. سيرة أمكنة، جدارية الوطن المشاغب، وقع انكسار هشيم المرايا في الحلم، أنين سنبلة أطربتها المناجل، تماهت ووهج التنور، خبزاً باسماً، يستقي سمرته من شمس تعرف إليها ذات شفق، وهي تغادر ـ نحو مدارها ـ «جرود» بلدته الجنوبية.. الأسطورة ضرب من خيال، وأن ينهض طائر العنقاء من رماده، تلك هي «سوالف» الأولين.. أتساءل.. هل أراد الفنان يوسف غزاوي أن ينهض بما يعادل غرنيكا بيكاسو، غرنيكا أخرى موازية هي غرنيكا الخيام؟ لطالما قال الكاتب: «إن الخيام هي صورة مصغرة عن الوطن»، و«وأن الخيام غرنيكاها على وقع الحروب والآلام». فمن حقنا أن نتساءل في ضوء اللحظة الغرنيكية الممتدة من زمن بيكاسو إلى زمن الخيام ما هي وظيفة الفن؟. كي تنهض بالفن حقيقة باقية وكنايتها أثر باق؟.. لعل الفن هو بطبيعته ذلك السؤال/الجواب الذي يخترق الأزمنة والأمكنة، والذاكرة الإنسانية ليقيم في فضاء التغيير، أو التلوين لما قد يعجز الفن عن تغيره وفق ما ذهب إليه الفيـلسوف «نيتشه»، وهذا ما يحيلنا بالرؤيا والعلامات لذاكرة الأمكنة التي بدأ الكاتب فيها محقباً، لا سيّرياً صرفاً، سوى من ذاكرة تؤلف أجزاء المكان «الواقعي الحلمي التخييلي والمؤسس بقوة الفن وبضرورته الإبداعية، ومع نفي الكاتب إلى أن مؤلفه «مدونته»، الصادرة عن «دار البصائر» بيروت (2013)، لا تحيل إلى السيرة الذاتية «الميثاق الاوتوبيوغرافي»، إلا أننا نجده يذهب سيّرياً إلى تأثيث الأمكنة بدءاً من الطفولة بوصفها الذاكرة الأولى المؤسسة، مروراً بمرحلة «بيروت وباريس وما بعد باريس ثم العودة إلى لبنان»، ولعل في الكم الباذخ من التفاصيل ما يشي بصيرورات الأمكنة في مرايا الكاتب الذي يصبح بذاته الإبداعية بؤرة كاشفة ومشعة في سفر إبداعي/فني غير مختص، بمعنى أنه لا ينشئ بحثاً في التشكيل وقواعده ومدارسه المعروفة، إنما الدلالة القصوى على الأرجح والتي يذهب إليها هي استخلاص التجربة بمعانيها الثقافية بخصوصيتها وعموميتها بآن معاً، ولطالما لا مكان مجرداً، بمعنى آخر أن المكان إنسان، وهنا شرط الفن في استحضار العلائق التي تجعل منه حكاية ضمنية ذات سرد شيق مشبع بالحنين والوجد الذي يصبغه الكاتب الفنـان طي «مـدونته»، وليجعل من الفن الضرورة العليا في مواجهة الحرب بحـثاً عن خـلود الأثر من دون أن يتخـفف مـن قواعد اللعبة التشكيلية فهي لعبة مزدوجة: الفن والأثر ما يوازي النزوع إلى الخلود، فإن تخليد «غرنيكا الخـيام» هو ما يجعل من شرط الفن وتالياً الشرط الإنساني حاضرين فيما يقاربه الكاتب غزاوي لتكون إحدى المقولات الهامة في كتابه هي الفن في مواجهة الحرب، بما يعنيه الفن من سلام يناهض الحروب وينحاز إلى الروح الإنسانية في تجليات الأمكنة والأزمنة، فالانفتاح الدلالي للغرنيكا الحدث والفن والفكرة، سيعني فيما يعنيه بالموازاة مـع «غرنيـكا الخيام» هي المعرفة التي تمثل ذلك الجهد الاستثنائي الذي بذله الكاتب في كتابه مؤثراً خطاباً يتوجه به إلى ثقافة وذائقة القارئ.
أي طريقة في حداثة التفكير والتعبير بالأثر الجمالي عن فكرة الخلود، لكن ذلك لم يأت مصادفة بل اقتضته ضرورة قدرية جعلت مسعى الكاتب ناطقاً برؤية استشرافية وجمالية عبر استنباط سياق ثقافي شامل لمدونته، والتي تأخذنا بتعدد دلالاتها إلى أكثر من قراءة، تبعاً لمرجعية ثقافية تكشف نسيجها في متنه السردي المباشر وغير المباشر ليترك لقارئه الحرية في اكتشاف طريقة القول، لا القول ذاته فحسب فيما عناه بعنوانه اللافت غرنيكا الخيام/ جدارية الوطن المشاغب، ذلك الوطن الذي تنفس في كلماته منافحاً عن السلام في وجه الحرب وفصولها المتواترة على أرض لبنان في غير مكان وزمان، أليس هو القائل: «أما نحن فنحاول صنع السلام عبر فننا وثقافتنا، فتصنعنا الحروب على هواها».
يعيد الكاتب كتابه إلى الحياة ليسجل به بقاء أثره الفني «غرنيكا الخيام» عبر متخيل الحلم والواقع ودأب الثقافة والفن لأن تكون معادلهما الحياة وحب الوطن. في الحكايتين المتجاورتين، حكاية الوطن وحكاية الحرب تتقابل المرايا كاشفة بقول ما نعرف، ولعلها المعرفة هنا»، تستوحي أسئلة إضافية فيما وراء تلك المحطات الزمكانية التي يرمي عليها الكاتب سؤال الحياة وهو الآتي من أقصى الجنوب والذاهب إلى مكامن الفن والرؤيا وما بينهما وجع مضرج بالفرح، لا زالت تمثل مرحلة من عمر الوطن، وصيرورات أحلام من سكنوه ومن هجسوا يوماً وعلى نحو صريح بأنه الخالد الباقي «كغرنيكا الخيام».
تعليقات: