ديما صادق خلال إحدى حلقات \"نهاركم سعيد\" (عن \"فايسبوك\")
الـ«توك شو» السياسي: أوان إشهار الإفلاس
في تعليق نشرته عبر صفحتها على «فايسبوك» أعلنت ديما صادق امتناعها عن استضافة أيّ «من السياسيين الحاليين في السلطة، والسياسيين المقرّبين من السلطة، والمحللين السياسيين المسخّرين للدفاع عن جهة سياسية، وذلك حتى إشعار آخر». وقالت مذيعة الأخبار في «أل بي سي آي»، ومقدّمة برنامج «نهاركم سعيد» على شاشتها، إنّ ضيوف البرنامج بدءاً من اليوم سيكونون «نشطاء مدنيين يتعاطون الشأن العام، ومواطنين عاديين متضرِّرين من السلطة». وشرحت صادق خطوتها بالقول إنّ السلطة تتفرّج بصمت على الفراغ الرئاسي والتمديد البرلماني وفضيحة ذبح جنود الجيش اللبناني، في وقت يحمّل البعض «الإعلام مسؤولية الترويج للسلطة السياسيّة العاجزة».
سبق لبرنامج «نهاركم سعيد» أن خصّص حلقات لشخصيّات وقضايا «غير سياسيّة»، أو بتعبير أدقّ، من خارج الأجندة السياسيّة اليوميّة، حيث البطولة دوماً لنوّاب ووزراء وزعماء ومحلّلين يردّدون الأفكار والشعارات ذاتها. في المقابل، واظب البرنامج الصباحي، ومعه برامج أخرى من النمط ذاته، على استضافة من تخصّصوا بالصراخ والشتائم والتحريض.
ما تقترحه ديما صادق من مقاطعة أو حظر، خطوة ستفرض بطالة جزئيّة على عشرات المحلّلين والسياسيين، ممن لا عمل لهم سوى التنقّل بين الشاشات، لتكرار كلام لا يفيد. ربما تخفّف القنوات التلفزيونيّة كافّة من آلام الرأس لدى اللبنانيين، إن انضمّت إلى مبادرة صادق، وقاطعت المحلّلين والسياسيين بدورها.
من البديهي، في أيّ سياق آخر، وفي أيّ بلد آخر، أن ندافع عن ظهور السياسيين والمحلّلين على الشاشات، كتقليد ديموقراطي، حيث يحقّ للجميع المشاركة في النقاش العام، والتعبير عن رأيه، ومقارعة الرأي المضاد. لكنّ الدفاع عمّا بقي من مساحة للنقاش، يفترض البحث عن شكل آخر لإدارة السجالات العلنيّة، لا يمرّ بالمناظرات التلفزيونيّة الفارغة.
تحوّلت تلك المناظرات إلى تقليد تلفزيوني مملّ، يستعرض فيه المحاوِرون والضيوف غباءهم، وافتقارهم إلى المعلومات الدقيقة، وحسّ الفكاهة، وسرعة البديهة. البرنامج الحواري السياسي على الطريقة اللبنانيّة، سواء كان صباحياً أو مسائياً، مساحةٌ للبلادة الفكريّة، وللدعاية السياسيّة. إنّه صيغة مفلسة، خالية من الابتكار، تساهم في تردّي الخطاب العام. أفضل ما يمكن للقنوات فعله اليوم، في وقت بات الذبح والخطف والتحريض الطائفي والعنصريّة لغة التحاور المفروضة، هو أن تبادر إلى إلغاء كلّ برامجها السياسيّة. وذلك ليس حفاظاً على «السلم الأهلي» (إن كان ذلك ممكناً أصلاً)، بل لأنّ الـ«توك شو» السياسي، بات قالباً تلفزيونياً مبتذلاً، وعبارةً عن ساعات بثّ ثمينة، تصرف على الهراء المجّاني.
تعالوا نستعدْ إسهامات برامج الحوار السياسي في النقاش العام: التحريض، إذكاء التطرّف، التراشق بكؤوس المياه والكراسي، ابتكار معجم يتسع لكلّ أنواع الشتائم وفصائل الحيوانات وقياسات «الصرامي»، فتح البثّ لحيتان السلطة الماليّة والسياسيّة وأرباب العمل للتهجّم على الفقراء والعمّال، وتقديم منبر لسياسيين فاسدين لتبرير خطاياهم، ولمحاورين (من دون تعميم) تحوّلوا مدرسةً في المحاباة والتملّق. في الخلاصة، ساهمت تلك البرامج في خلق أسلوب مريض للسجال العام، تحوّل معياراً، يقوم على استعراضات كلاميّة، فارغة من أيّ مضمون، وبالنتيجة، تقزيم الحياة العامّة كلّها للتناسب مع ذلك الخواء في المضمون. أهذا تقليد يستحق احتلال معظم مساحات البثّ على الشاشة اللبنانيّة؟ هل يعجز العقل الإعلامي اللبناني عن ابتكار بديل، خصوصاً أنّ برامج الـ«توك شو» لم تعد تحظَى بحصّة كبيرة من نسب المشاهدة؟
مقاطعة السياسيين، قد تكون محاولة أخيرة للإعلام اللبناني، لغسل يديه من مسؤولية فتح الهواء لشخصيّات تروّج للفتنة والعنصريّة والحقد الطائفي. الإعلام اللبناني ليس بريئاً، حتى لو أعطى الكلام للمواطنين «العاديين»، طالما أنّه لا يتردّد في التصفيق للسلطة، والتستّر عليها.
تعليقات: