يشذ الحزب الشيوعي اللبناني في احتفالاته بذكرى تأسيسه تستمر لأيام عدة تتخللها سلسلة من النشاطات الفنية والغنائية
الاحتفالات بتأسيس الأحزاب السياسية في لبنان تأتي، عادة، محاضرة مكررة لما كنا نسمعه حول نضالات هذا الحزب أو ذاك، وإبرازاً لتضحياته، وتعداداً لإنجازاته وتوضيحاً لدوره في خدمة الوطن وناسه، الأمر الذي يدفع للظن أن «وجودنا» الوطني برمته ما كان ليكون لولا هذا الحزب.
قد تكون هذه الظاهرة حاجة نفسية يحتاجها الحزب لتحفيز أعضائه ومناصريه، وشد عصبيتهم الحزبية للتأكيد على الوجود والاستمرارية، ما يجعلها ظاهرة «طبيعية» يحتاجها أي الحزب لإعادة تلميع الصورة، والإعلان عن أبهى مظاهرها، أو لإعلامنا نحن عامة الناس بوجود و«قوة» هذا الوجود، ما دام الحزب يدّعي تمثيل الناس ـ الجماهير ـ والتعبير عن همومهم.
وبرغم أن ذكرى التأسيس يفترض أن تكون في أحد تعابيرها وقفة مع الذات وتجاربها بين محطة وأخرى، غير أن الإجراءات الاحتفالية للأحزاب اللبنانية لا تتضمن، مبدئياً، أي نوع من المراجعة النقدية، او المكاشفة بالهفوات والأخطاء، الأمر الذي يجعل المناسبة تبدو وكأنها تجري سنوياً، على المنوال ذاته والروتين نفسه.
يشذ الحزب الشيوعي اللبناني في احتفالاته بذكرى تأسيسه، عادة، عن غالبية الأحزاب السياسية في لبنان. إذ لا تقتصر الذكرى على المهرجان المركزي. بل تستمر لأيام عدة تتخللها سلسلة من النشاطات الفنية والغنائية، إضافة إلى الندوات الفكرية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يحوّل المناسبة إلى ما يشبه «الميلاد» الجميل.
وقد أضاف الحزب في ذكرى تأسيسه التسعين لهذا العام ندوة علنية ومفتوحة خاصة بـ «أزمته». وبرغم كل التبريرات والحجج والمقولات التي تقدم حول هذه المبادرة وتوقيتها ومدى الحاجة إليها، فهي ظاهرة غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية، وتحمل في مضمونها الكثير من الجرأة والتحدي.
ومن دون الولوج إلى مجريات الاحتفالات عامة، والندوة النقدية خصوصاً، فإن السمة التي يمكن ان تسم الحزب في عقده التسعين هي انه في وضع مرتبك تسود حياته الداخلية الكثير من الاضطرابات والاهتراءات وتعتصره العديد من الالتباسات، الأمر الذي يزيد من عزلته ويقيد حركته ويكاد أن يهدد وجوده.
من هنا قد يكون من الظلم جداً تصيد أخطاء الحزب في ذكرى تأسيسه، أو التصويب على محطات من دون أخرى لتأكيد عجزه، خصوصاً أن تاريخه عريق وغني، بالإيجابيات والسلبيات، ما يوفر لأي متابع إيجاد ما يحلو له من معطيات ووقائع حول مسيرة الحزب.
لكن من الضروري التذكير بأن الحزب الشيوعي الذي رافق قيام دولة لبنان الكبير مباشرة، كان أول محاولة سياسية تنظيمية جدية تطرح أفكاراً «جديدة» ومتناقضة مع السائد مجتمعياً، وتقدم مقاربة مغايرة في قراءة قضايا المجتمع ومشاكله، وتمارس أسلوباً مختلفاً في التعبئة والتنظيم والتثقيف، وتبشر بآفاق واسعة لأحلام لا حدود لها لتحرير الإنسان من القهر والاستغلال، وتحلم بوطن واعد، ومستقبل مشرق من دون تبعية وتخلف. لذلك قد يجد الحزب نفسه في هذه المرحلة، وبعد تسعين سنة من النضال، في واقع أكثر تخلفاً وآفاق شبه مسدودة وتنظيم شبه مجمد وأفكار مشوشة وذهن تائه.
لذلك، لا يمكن رؤية واقع الحزب الشيوعي وارتباكاته اليوم خارج العجز الفاضح الذي وصلت إليه الأحزاب السياسية عموماً، والتغييرية منها خصوصاً، ولا خارج الخلل البنيوي المجتمعي. من هنا فإن ما يدعوه الحزب بـ«أزمته الذاتية» هو تعبير عن وانعكاس لـ«الأزمة المجتمعية» العامة، التي ساهمت الأحزاب السياسية كافة في تعميقها وتوسيع ارتداداتها لتطال جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية...
ضمن هذا المناخ، فإن أهم ما يمكن رصده في مسار الارتباكات التي تفتك بالحزب الشيوعي اليوم، من دون العودة إلى التاريخ البعيد، تتلخص في محطتين:
المحطة الأولى قبيل سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث لم يستطع الحزب حينها إعادة تحديد توجهه وتعيين مساره، برغم وعيه بشكل او بآخر بأن أزمة ما تقترب من الحزب. ولتوضيح الفكرة، يمكن الإشارة إلى أن المكتب السياسي للحزب بادر العام 1988 وعلى مدار ثلاثة أشهر تقريباً (نيسان ـ تموز) إلى عقد سلسلة اجتماعات موازية ومرافقة لاجتماعاته العادية، بهدف تطوير نظرة الحزب لبنانياً وعربياً وإقليمياً (بحسب أحد قياديي الحزب المفصولين). ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنه من المواضيع التي تمت مناقشتها في تلك الاجتماعات تتمحور حول طبيعة الحزب ودوره، وتطوير ما جاء به المؤتمر الثاني في المسألة القومية، والعلاقة مع سوريا، وموضوع الديموقراطية داخل الحزب، وفكرة وجود تيارات داخله، وتغيير اسم الحزب، والنظرة إلى الكيان اللبناني، على أن تصل هذه الاجتماعات إلى طرح وثيقة تتضمن أفكاراً متجددة في هذه المسائل، وتتوج بندوة فكرية تعقد بالذكرى العشرين للمؤتمر الثاني على الحزب (1968) تضم عدداً من الأحزاب العربية والعالمية.
غير أن الصراع الداخلي في حينه والخلافات القائمة حالت دون الوصول إلى ما كان مقرراً. ويلاحظ ان هذه العناوين، وغيرها، لم تزل من أبرز محاور الجدل داخل الحزب من دون أي حل، وبالتالي كان الفشل في الوصول إلى نص مكتوب، في ذلك الوقت، أبقى الصراع «مكبوتاً» ولم يلغه.
المحطة الثانية بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وما أعقبه من ارتدادات. فقد شكل هذا الانهيار زلزالاً «قاتلاً» أفقد الحزب «نموذجه المشرق» وحلمه الموعود، وجعل الحزب في لبنان يتيماً بعد فقدان الأب الرمزي. من هنا بدت الفكرة للحظة مسألة فيها نظر عند البعض، إذا لم نقل انها موضع للشك والريبة. لذلك صدم الأبناء وارتبكوا وتخاصموا، ما عمَّق الصراعات وأظهرها من جهة، وأفقد الحزب توازنه وإمكانية توجيه مساره من جهة ثانية.
كان الحزب قادراً على لملمة تخبطه وتحديد مساره مجدداً بعد المؤتمر السادس (1991)، الذي جاءت وثائقه على خلفية اجتماعات 1988، وكانت تحولاً نوعياً ومراجعة نقدية غير مسبوقة بهذا المستوى، سواء على صعيد الحزب نفسه، او على صعيد التجربة الحزبية العربية عموماً. لكن الصراعات الماضية على قاعدة التجديد او المحافظة والتقليد، امتدت وتعمقت وتمظهرت بعض أشكالها حول تفسير هذه الوثائق وتجسيدها.
وقد زاد الارتباك ووسعته استقالة جورج حاوي من الأمانة العامة للحزب، الأمر الذي جعل القيادات التي استلمت بعده، وبنسب متفاوتة، تواجه معضلات غير قادرة على مواكبتها وخارج قدراتها وإمكاناتها. وبالتالي تم كبح الاندفاعة التي أطلقها المؤتمر السادس، وعمدت القيادة الرسمية إلى التخفيف من حدة الانفتاح التي بشر بها المؤتمر، بل تجميدها والتنكر لها. وعلى هذه القاعدة ازدادت عملية «النزوح» من الحزب، وتم فصل العديد من الرموز الحزبية، وإطلاق الاتهامات بحقهم. وترافق هذا مع تجميد النشاط الفكري. وعليه، فقد تحصنت بعض القيادات المتعاقبة في «القلاع» القديمة لما توفره من راحة «نفسية» وحماية ذاتية، ولما تؤمنه من إعفاء من مهمة التجديد والتطوير ومواكبة التحولات المجتمعية وقضاياها.
من هنا لم يزل الحزب في حالة انتظارية. يناقش بتوتر، ويراقب بخمول، وينظر بشرود، ما ضخم ارتباكاته وهمَّش حضوره. لذلك لا يمكن ضمن هذه الوضعية انتظار «الترياق» في المؤتمر الحادي عشر، ولا يمكن الإبقاء على وعد المؤتمر المنتظر الذي تم تأجيله أكثر من مرة، لأن المعطيات لا تبين إمكانية أن يكون حلا في ظل السائد او منقذاً في ظل شخصانية النقاش كثرة الاتهامات وغياب البرامج وتكلس الفكر.
إذا كانت هذه بعض مظاهر الارتباك الشيوعي، فكيف يمكن تطبيق الشعار الذي رفعه في الذكرى التسعين لتأسيسه «منمشي ومنكمل المشوار»؟ لقد برر الحزب وجوده منذ خطواته الأولى باسم «حزب الشعب» العام 1924 كحاجة وطنية مجتمعية سياسية. فكيف يبرر الحزب وجوده اليوم وهو في التسعين من عمره؟ إنه تحد يحتاج إلى أكثر من ندوة لمناقشة «الأزمة الذاتية» التي يتخبط فيها «الشيوعي».
الكاتب شوكت اشتي
تعليقات: