معن بشور: مراجعة مطلوبة من كل من قسا يوماً على حركة «فتح»، وعموم حركات المقاومة الفلسطينية، سواء كان مثقفاً أو كاتباً أو حزباً أو نظاماً
من الصعب على من شاءت الظروف والأقدار أن يواكب مثلنا تجربة الثورة الفلسطينية منذ انطلاق رصاصاتها الأولى على يد ثوار «العاصفة»، الجناح العسكري لـ «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح)، قبل نصف قرن، أن لا يقف أمام الذكرى الخمسين لانطلاقتها مستعيداً الحلو في تلك التجربة والمر، داعياً إلى مراجعتين جريئتين في آن، يقوم بإحداها مناضلو تلك الحركة التي لم تنطلق لتحرير الأرض المحتلة العام 1967 فحسب، بل لأنها ببساطة انطلقت قبل تلك الحرب المشؤومة وكان هدفها تحرير فلسطين كلها من البحر الى النهر، فيما يقوم بالمراجعة الأخرى أولئك الذين قسوا على تلك الحركة التي قدّمت معظم قادتها شهداء والتي يشكل مناضلوها غالبية شهداء النضال الفلسطيني المعاصر وجرحاه وأسراه الذين ما زالوا قابعين في سجون الاحتلال حتى الساعة.
المراجعة الأولى المطلوبة من «فتح»، مناضلين وكوادر وقادة، تبدأ من المقارنة بين الأهداف الأولى التي انطلقت من اجلها الحركة وتحولت في سنوات قليلة إلى حركة الشعب الفلسطيني بتياراته ومشاربه الفكرية والسياسية كافة، وبين سياسات أنزلقت إليها بعض قياداتها فبدا وكأن الحركة التي أطلقت في شعبها وأمتها حيوية استثنائية لا يستطيع حتى المكابر والمتحامل أن ينكرها، قد أصابها وهن وترهل وتعب وفتكت بها أمراض أصابت العديد من الأنظمة التي ما قامت (فتح) أصلاً إلاّ لتحرر قضية شعبها من أسر منطق تلك الأنظمة وذرائعها على طريق تحرير الأرض والإنسان في فلسطين.
فإقدام الفتحاويين على مثل هذه المراجعة الجريئة، يبدو اليوم ضرورياً، لا لكي تستعيد حركة الرصاصات الأولى في مسيرة الشعب الفلسطيني حيويتها وريادتها الثورية فقط، بل لكي تنتزع لفلسطين انجازات كبرى بعد كل ما قدمه هذا الشعب، بمقاومته العابرة كل أنحاء الوطن المحتل المغتصب، من بطولات، وما قدمه من تضحيات، وبعدما تحولت قضية فلسطين إلى قضية تتفاعل معها شعوب العالم كلها وتضغط على برلمانات وحكومات كانت إلى وقت قريب تتجاهل الحق الفلسطيني بل تتواطؤ على إنكاره مع العدو الصهيوني وراعيه الأميركي.
وأبجدية المراجعة المطلوبة تقوم على استعادة التكامل العضوي بين مقاومة مسلحة وشعبية، تدرك أنها تواجه عدواً لا يفهم إلاّ لغة القوة، وبين جهد سياسي وديبلوماسي يدرك أن فلسطين هي جزء من امة مستباحة بكل أنواع الشرور، وجزء من عالم كان حكامه دعامة كبرى للكيان الغاصب قبل قيامه وبعده.
فمثل هذا التكامل كان وراء الانبعاث المتجدد لكفاح الشعب الفلسطيني منذ ثورات العقود الأولى من القرن الماضي حتى انتصارات المقاومة في غزة، واشتعالها كهبّات وانتفاضات في القدس والضفة الغربية وصولاً إلى أراضي 1948 وبلدان الشتات الفلسطيني القريبة والبعيدة.
بل إن مثل هذا التكامل هو الذي يحصن العمل الديبلوماسي والسياسي، من أن يتسبب بضياع القضية نفسها، بل من أن يقفز فوق الحقوق الثابتة والمعروفة لهذا الشعب. وفي المقابل، فان هذا الجهد الديبلوماسي والسياسي هو الذي يفتح للمقاومة الباسلة، ولكل أشكال الانتفاضة، آفاقاً رحبة لترجمة انجازات الميدان إلى مكاسب سياسية على طريق التحرير واستعادة الحقوق.
أما المراجعة الأخرى فمطلوبة من كل من قسا يوماً على حركة «فتح»، وعموم حركات المقاومة الفلسطينية، سواء كان مثقفاً أو كاتباً أو حزباً أو نظاماً، فسعى إلى شيطنة الحركة وقادتها، كما هو الحال مع الأسلوب المعتمد في شيطنة حركات ورموز وقادة رفضوا الإذعان لاملاءات أعداء الأمة والسير في مخططاتهم ومشاريعهم.
لقد أُتهمت (فتح) منذ ولادتها، كما أُتهم قادتها ومؤسسوها بأبشع التهم، وكانت الاتهامات تتبدل مع تبدل المراحل والظروف، ولكن الهدف الدائم منها كان إيجاد المبررات والأعذار «للتحرر» من أكلاف الالتزام بالقضية الأكثر صعوبة، والأكثر عدالة، في هذا العالم.
ووصلت هذه القسوة إلى ذروتها حين كان، هؤلاء القساة، وبينهم أعتى الطغاة، ينكرون على «فتح» خصوصاً، وعلى عموم مسيرة النضال الفلسطيني، أي انجاز تحقق، وأي انتصار حصل، وهم يدركون في قرارة أنفسهم إن مسيرة خمسين عاماً من الكفاح كانت مليئة بأساطير من الصمود والمقاومة تحدّت كل الفوارق في موازين القوى وأعادت الاعتبار لموازين الإرادات في الصراع بين الشعوب وأعدائها.
وإذا كان المجال لا يتسع هنا لتعداد هذه الانجازات منذ معركة الكرامة العام 1968، التي كانت أول ردّ على هزيمة 1967، حتى معركة الصيف الماضي على أبواب غزة، القطاع المحاصر منذ سبع سنوات، فإنه يكفي أن نرى إن المقاومة الفلسطينية قد انتقلت من مقاومة عبر الحدود (وما أدراك ما أهوال تلك المرحلة وصداماتها) إلى مقاومة داخل فلسطين نجحت في أن تتوهج وتتألق فيما الحريق يلتهم معظم الساحات العربية، لا سيما تلك المحيطة بفلسطين.
قد يخطئ الفلسطيني، وقد أخطأت قياداته بالفعل في أكثر من محطة، لكن كل هذه الأخطاء والخطايا لم تستطع أن تحجب أبداً قدرة الشعب الفلسطيني الخارقة على الاحتفاظ براية الثورة والمقاومة عالية، ليثبت المرة تلو الأخرى انه كما قال عنه الرئيس الشهيد ياسر عرفات: «متقدم على قياداته»؛
ولا أنسى هنا تعليقاً جميلاً سمعته من الصديق والمناضل الأممي النائب البريطاني جورج غالاواي، ونحن نقف معاً على أبواب مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي لنطمئن إلى صحة أبي عمار في أيامه الأخيرة من تشرين الثاني 2004، وفيما المئات من كاميرات التلفزة العالمية ترابط على باب المستشفى تنتظر خبراً عن صحة القائد الفلسطيني الكبير، يومها قال النائب البريطاني جورج غالاواي: «يكفي أبو عمار وإخوانه وشعبه أن خفقات قلبه الممتلئ بحب فلسطين أصبحت محط اهتمام العالم، بعدما كان هذا العالم يردد مع غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الإسرائيلي في ستينيات القرن الماضي، ليس هناك شعب فلسطيني».
وتذكرت هذا القول مجدداً حين أدخل شارون – قاتل ياسر عرفات – المستشفى بعد أن دخل في غيبوبة طويلة وتساءلت كم من قناة تلفزيونية أو محطة إخبارية كانت مهتمة بمصير خليفة غولدا مائير.
في الذكرى الخمسين لانطلاقة «فتح»، نتذكر قادتها ومناضليها الشهداء شهداء فلسطين كلهم، ونحيي جرحاها وسائر جرحى فلسطين، ونتضامن مع أسراها وكل أسرى فلسطين، ونردد مع أطفالها ونسائها وشيوخها ومجاهديها كافة: فلسطين ستنتصر. وكلما التزمت قياداتها بميثاق «فتح» التأسيسي كلما اقترب موعد النصر بإذن الله.
طائر الفينيق الفلسطيني، بل الفتحاوي، كان دوماً يخرج من الرماد بعدما ظن كثيرون أن الحرائق المتوالية قد أجهزت عليه. وهو اليوم يخرج مرة جديدة من رماد الانقسام والتخاذل والتواطؤ، حاملاً بين جناحيه علم فلسطين، وفي قلبه مآذن القدس وكنائسها، ودماء غزة ودمارها، وثبات أهل الضفة وتضحياتهم، وهبّات عرب فلسطين 48 وانتفاضاتهم.
«فتح» تستحق في عيدها الخمسين من قادتها، كما من خصومها وأعدائها، مراجعة تستأنف معها مسيرة تتحول كل يوم إلى «مفاجأة العروبة لنفسها» بل مفاجأة العالم لذاته.
تعليقات: