الياس عطالله: قادر على استعمال اللغة اليسارية
- الكلّ مسؤول في اليسار الديموقراطي لقلّة الأعضاء
- المساكنة بين اليساري السابق وبين عتاة اليمين الحالي جارية على قدم وساق
- اليساري السابق مطلوب دوماً من اليمين فهو قادر على استعمال اللغة اليسارية في نقد اليسار الحقيقي
- اليساري السابق كان ينتقد النظام السوري من اليسار، اليوم ينتقده من اليمين
- اليساري السابق تطبيعيّ من الدرجة الأولى، ولكنّه يخجل من التصريح
...
تعرفونه. اليساري السابق. يتجوّل غير مختال في شوارع بيروت ومقاهيها. تتبيّنونه في إطلالته، وهي ازدادت في الأشهر والسنوات الماضية. المحطّات اليمينيّة (وهل هناك محطات يساريّة؟) تستسيغ مواقف اليساري السابق، وتروّج لها. هو يظنّ أنّنا نسينا كتاباته ومواقفه السابقة ــــــ عندما كان يسارياً، هذا إذا كان حقّاً يساريّاً يوماً ما. يحاول أن يقنع نفسه أننا نسينا، لعلّ ذلك يسهّل له عمليّة رؤية نفسه في المرآة كل يوم. وهو عليه أن يرى نفسه في المرآة كل يوم. لعله يتجنّب، أو يتملّص، حفاظاً على «شرش الحياء». هو يظن أننا نتذكر فقط كتاباته بعد التحوّل إثر اغتيال رفيق الحريري عندما جالت العائلة تبتاع الأقلام، كما ابتاع خالد بن سلطان الصحف والمجلات العربية بعد اجتياح العراق للكويت. واليساري السابق يخشى أن يُعاد نشر كتاباته السابقة، لكنّه يطمئنّ بسبب سيطرة الأعلام الحريرية على جلّ الصحف والشاشات (بالتعاون مع آل سعود)، وهي تحمي كلّ اليساريّين السابقين (والسابقات أيضاً) من كتاباتهم الماضية ومن مقابلاتهم السابقة لأنّهم يعملون اليوم المستحيل لخدمة السلالة الحاكمة في لبنان.
اليساري السابق يأتي من خلفيّات محدّدة: الحزب الشيوعي أو منظّمة العمل الشيوعي ــــــ والأخيرة معملٌ مميّز في إنتاج اليساريّين السابقين (عليك أن تعترف أن عتاة مناصري البنك الدولي ورأسمالية الحريري المتوحشة هم من خرّيجي مدرسة محسن إبراهيم. لو لم يكن صامتاً، لسألناه). وبعض اليساريين السابقين انشقوا عن الحزب الشيوعي لأنه لم يكن ـــــ بنظرهم آنذاك ــــــ يسارياً بما فيه الكفاية. واليساري السابق كان زعيماً في المزايدة اليسارية في الحقبة اليسارية، وهو اليوم زعيم في المزايدة اليمينية في الحقبة اليمينية. واليساري السابق كان ينتقد النظام السوري من اليسار، ثم يعود اليوم لينتقده من اليمين. كان يعترض على بوادر القبول بالسلام عند النظام السوري، وبات يعترض على النيات العدوانية للنظام نحو اسرائيل. وهو ينتقد سياسة الممانعة المائعة والفارغة، لأنّ مثاله ليبيّ (الحالي).
اليساري السابق يجد صعوبة في الإبقاء على صبغته أو صفته اليسارية المزيفة، وهو كان ليتخلى عنها تلقائياً، ولكن حكم الأكثرية يحتاج إليه لتصنيع نقد يرتدي اللبوس اليساري، لأنّ يمينيّيه أكثر من الهمّ على قلب المواطن (والمواطنة). حاول اليساري السابق أن ينشئ تنظيماً خاصاً به، سمّاه «اليسار الديموقراطي»، لكن المحاولة كانت محرجة في فشلها. يعقد التنظيم مؤتمراته في السرّ لستر الفضيحة. مسؤول (والكلّ مسؤول في التنظيم لقلّة الأعضاء) مناطقيّ في التنظيم يكتب في صحيفة آل الحريري ــــــ وهي تسخر من الفقراء ومن الخادمات السريلانكيات بصورة دورية، لكن المساكنة بين اليساري السابق وبين عتاة اليمين الحالي ممكنة وهي جارية على قدم وساق، وخصوصاً أنّ اليمينيّ الحالي يتصدّق على اليساري السابق بوظيفة وبإطلالات إعلامية، وحتى بمقعد نيابي متجوّل. كان اليساري السابق ممنوعاً إعلاميّاً في حقبته اليساريّة، وهو اليوم لا يستطيع أن يلبّي الدعوات التي تأتيه من وسائل الإعلام اللبنانية والسعودية لكثرتها. وهو يظن أن السبب يعود إلى فطنته ونباهته أو إلى فصاحة مميّزة لا إلى تقلّباته. اليساري السابق يفترض أننا نسينا أن الياس عطا الله كان يتصل ببرنامج «كلام (بعض) الناس» ليرجو المضيف ـــــ على الهواء ـــــ ليدعوه ولو لمرّة واحدة للحلول ضيفاً، قبل أن يتحول الى ضيف تلفزيوني شبه أسبوعي في حقبته اليمينية المستجدة.
اليساري السابق كان شديد الحرص على قضية شعب فلسطين ـــــ أو هكذا كان يقول. كان يزايد حتى على الفلسطيني الذي يصر على تحرير كلّ ملم من فلسطين، وهو اليوم من قارعي الطبول احتفالاً باقتحام مخيم نهر البارد. هو اليوم يتحدّث بسهولة عن «البؤر» الفلسطينية في لبنان. اليساري السابق هو اليوم من المهووسين بشرّ الممانعة، وإن لاحظنا أنه لا يجرؤ على الإقرار المنطقي بولعه ببديلها في الأنظمة المنقادة وراء المشيئة الأميركية في المنطقة. اليساري السابق يهاجم الممانعة (وهي نسق ضعيف ومتهافت من أقل درجة من الرفض بانتظار شروط أفضل للانصياع)، ولكنه لا يوضح ما إذا كان يفضّل المقاومة خياراً ـــــ طبعاً لا. اليساري السابق تطبيعيّ من الدرجة الأولى، ولكنّه يخجل من التصريح، وقد يغيّر بعد حين (على غرار اليساري السابق في مصر). وهو يتردّد في الإجابات عن أسئلة مهمّة، لأنّه يصدّق أكذوبة يساريّته، ظانّاً أنّ غيره يصدقه أيضاً.
اليساري السابق مُحرج. هو أكثر من مؤيّد: هو أداة طيّعة في يد المشروع الحريري من دون أن يوضح كيفية التوفيق بين اليسارية المزعومة وبين الحريرية. عليك أن تقبلها بـ«لا كيف» على طريقة حل الجدال الشهير في موضوع خلق القرآن. اليساري السابق متحالف مع من كان يعادي قبل سنوات: طبعاً، هؤلاء اليمينيون لم يتغيروا. هو تغير. الكتائب بقيت كتائب والقوات اللبنانية تباهي بـ«مقاومتها» أثناء الحرب، وهي ـــــــ خلافاً لمحسن إبراهيم ــــــ لم تجرِ نقداً ذاتياً على مسارها أو على تحالفها مع إسرائيل.
قد يتخلى اليساري السابق عن ربطة العنق، وقد يظهر حليقاً تقرّباً من الشاشة، وقد يبقي على لفافة «الغولواز»، لكنه حسم أمره. يمشي في مواكب الليبرالية الوهّابية، وهي معطاءة في مكافأتها لمن يتحوّل. وتستطيع أن تتفهم معضلة اليساري السابق. أين يكتب لو بقي على يساريّته في عصر الطغيان الوهابي على وسائل الإعلام العربية؟ من سيُصدر له المجلات والملاحق والصحف؟
واليساري السابق مطلوب دوماً من اليمين. فهو قادر على استعمال اللغة اليسارية في نقد اليسار الحقيقي على ضعفه، وفي نقد أية مقاومة لإسرائيل، حتى ولو بالحجارة. اليساري السابق يؤمن، على طريقة السنيورة والمرشّح غير الجدي للانتخابات الرئاسية في لبنان، شبلي الملاط، بالنضال «الحضاري» ـــــ فلتحيا الحضارة (في أبو غريب، مثلاً. وجب أن يصبح كتاب أدورنو وهوركهايمر «ديالكتيك التنوير»، وقد صدر في ترجمة عربية أخيراً، مقرّراً في كل مكاتب التحرير في طول العالم العربي وعرضه. لعلّهم لو قرأوه لتريّثوا قليلاً قبل أن يصدحوا في آذاننا بكلامهم المكرّر عن الحضارة وعن الرقيّ. شبعنا، أرجوكم، وخصوصاً أنّ نماذجكم الحضارية تُختصر بسعد الحريري ومصطفى علوش وتيّار «الكفاءات».)
اليساري السابق مستعد أن يتكيّف. هو يلهج بحمد أمين الجميل، لكنه مستعد أن يمشي بسمير جعجع. يا للّيونة. ويستطيع أن يلبّسها لبوساً يسارياً إذا ما اقتضى الأمر عبر القول إن جعجع، على الرغم من ماضيه وحاضره ومستقبله، لم ينحدر من عائلة إقطاعية. ينسى اليساري السابق أننا نعلم أن راعي كل اليساريين السابقين في لبنان، هو سليل عائلة إقطاعية طائفية، وإن كان العقل لا يتقبل بسهولة فكرة اليسارية السابقة للزعيم المذكور. لم يبدُ يوماًَ يسارياً، وإن ارتدى بنطال الجينز (ويقلّده في ذلك نائبه من عاليه لعلّ المعلّم يلاحظ، فيعطف عليه بتحيّة أو مصافحة).
ووظيفة اليساري السابق ــــــ وهي وظيفة قبل أي شيء آخر ــــــ ليست جديدة. الحركة المكارثية في أميركا استعانت بفريق كامل من اليساريين السابقين لنقد الشيوعية. قد نسمّي، هنا، قدري قلعجي اليساري السابق الأوّل في العالم العربي. طبعاً، هناك من سبقه لكنه أتقن الدور أكثر من غيره. استعمل ما علمه من تجربته الشيوعية ليفضحهم في الصحافة المحافظة طبعاً، وليسرّ خاطر اليمين السعودي في عزّ الحرب العربية الباردة، كما سمّاها مالكولم كير. كان قلعجي سبّاقاً في إنتاج التراث غير المعرّب في نقد الشيوعية ـــــــ وله كتاب في... محمد عبد الوهاب وفي عبقرية العائلة الحاكمة في الكويت. هناك أيضاً كتاب الشاعر الفذ بدر شاكر السياب «كنت شيوعياً» الذي صدر لتوّه في عصر بوش والليبرالية الوهابية. لعلها الصدفة. ثم الشيوعية درجات درجات. ما رأيكم بالحزب الشيوعي العراقي المتحالف مع الاحتلال ومع القوى الطائفية في البلاد (من سنية وشيعية)؟ ثم هل هناك من يساري سابق مؤيد لحروب بوش أكثر من عزيز الحاج؟ (هل سيُبث شريط اعترافاته الشيوعية على شاشة تلفزيون صدام وبإشراف الصحاف عندما كان الأخير مديراً للتلفزيون آنذاك؟)
اليساري السابق يظن أنه متحذلق. فهو يسبغ صفات يسارية على أكثر الأحداث يمينية أو طائفية. فتصبح همروجة الطائفية في 14 آذار شبيهة بكومونة باريس، ويصبح فؤاد السنيورة نعومي كلاين آخر. واليساري السابق يجد صعوبة في التأقلم مع الأحداث. وتسارع الأحداث في لبنان وفي المنطقة يؤدي أحياناً باليساري السابق الى التخلّي عن المحاولة المصطنعة لإلباس زي يساري للمواقف اليمينية. وهذا يفسر تطابق مواقف الياس عطا الله مع مواقف ومفردات أنطوان زهرا. الياس عطا الله هو السابق وهم اللاحقون. سيتحولون كلهم الى الياس عطا الله على الرغم من خلافات (شخصية لا عقائدية) عميقة بين اليساريين السابقين. الخلافات تنحصر في حب الزعامة، أو من يستحق أن يكون اليساري السابق الأوحد والوحيد. ثم هناك منافسة حامية بين اليساريين السابقين على من يبتعد أكثر عن اليسارية، ومن يقترب ويتملق أكثر لليمينية وللحريرية خصوصاً.
اليساري السابق يستعين على حين غرة، ومن خارج السياق معظم الأحيان، بماركس أو بشيوعي آخر. ينسى اليساري السابق أننا نتذكر أنهم كانوا ستالينيين حتى العظم. (هل ما زال وليد جنبلاط يحتفظ بصورة فيلكس جيرجنسكي في قصره المنيف، أم استبدلها بصورة لإليوت آبرامز؟). اليساري السابق ينزع الى الهرمية في التنظيم والتسلطية في الحكم، في الحقبة اليسارية وفي حقبته اليمينية. ولا ننسى أن اليساري السابق يحتاج الى الاستشهاد برياض الترك، ناسياً أن الأخير (وهو ضحية أكيدة لحكم قمعي لا يستحق صفة اليسارية أو المقاومة) هو أيضاً يساري سابق.
اليساري السابق متصالح تماماً مع النظام السعودي والمصري والأردني. وهو حريص جداً على حقوق الإنسان في سوريا، فقط، لأن النظام السعودي والمصري والأردني نجحوا في إقامة الجمهوريات (والملكية) الفاضلة. واليساري السابق قلق جداً من النزعات الدينية في حركة حماس وفي حكمها الأعوج في غزة لأنه منبهر بالنموذج العلماني الصالح في جدة والرياض.
واليساري السابق اكتشف لتوه أن كارل ماركس والماركسية جزء من تراث الفكر الغربي (وكأن الفكر الغربي وحدة متراصة ــــــ نسي صاحبكم ديالكتيك ماركس). وعليه، فاليساري السابق يطالبك بقبول الفكر الغربي (الوحداني) المتمثل باستشراق برنارد لويس وحروب بوش التحريرية، أي أن اليساري السابق يستعين بماركس للترويج لبوش (ولسمير جعجع)، فنِعم الديالكتيك. وعليه، فالماركسية العربية وفقاً لـ(لا)منطق اليساري السابق تقتضي القبول بالاستشراق وبحروب بوش التحريرية. ينسى أن الغرب غربين أو ثلاثة، على الأقل. فالغرب، بالنسبة إليه، مثل الشرق بالنسبة إلى برنارد لويس. أي هو الاستغراب (لم يفلح حسن حنفي في كتابه عن الموضوع، من دون أن يدري.
اليساري السابق يتجوّل من عاصمة عربية الى أخرى. يتنقل لتنوع الوسائل الإعلامية العربية (السعودية التمويل دائماً). الطلب يفوق العرض أحياناً. في لبنان، اليساري السابق مطلوب خصوصاً في تلك الدكاكين الطائفية التي تنشئها عائلة الحريري. واليساري السابق موجود في كل الدول العربية من دون استثناء، وهو في مصر من دعاة التطبيع، وفي الكويت من المرحّبين بالقوات الأميركية، وفي الأردن من المتيّمين بحكمة الملك، وفي السعودية من المتيّمين بالوهابية. وقد وصل اليساري السابق الى مراكز وزارية في سلطنة عمان.
اليساري السابق، عندما ينظر الى نفسه في المرآة، ماذا يرى؟ هل يرى وجهه السابق أم اللاحق، أم يرى حرباء؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
زياد ماجد، مسؤول في اليسار الديموقراطي (لقلّة الأعضاء)
تعليقات: