تتفرج على البحر (علي علوش)
تنحني رنا، مقرفصة. تضع الكوب البلاستيكي على الأرض. تحار أمام «معضلة» الدرابزين الجديد. تمسك بيديها حافته العليا، مائلة بجذعها إلى الأمام، صوب البحر الليلي الأسود الذي تعشقه. ففي نهاية سهرة شارع الحمراء، لا بد من فنجان القهوة الأخير قبل أن «يسرّب» الأصدقاء إلى بيوتهم. لكن الوضعية ما زالت غير مريحة. فالدرابزين الفضّي عال. وشكله الذي يتخذ نصف استدارة، مثل «كرش» من وحي ما بعد الحداثة وقد تكوّر على الشاطئ البيروتي، يترك ثقل الفتاة بلا سند. تحتال على الأمر. ترفع قدمها وتحط بها على واحد من القضبان السفلية اللماعة للدرابزين. مشكلة التكوّر نفسه، لكن لا بأس. الكوب البلاستيكي الآن في يدها. تحتسي قهوتها بهدوء يشوبه تركيزها على إراحة ظهرها بالحد الأدنى. المهم أنها تواجه بحر الصيف. دقائق قليلة وتتعب. هذه المرة، تطلب من رفيقها أن يمسك لها الكوب، ومعه حقيبة يدها وعلبة الدخان، ريثما تتدبر حلاً. تدور بجسدها يمنة ويسرة. لا مناص من التخلّي، مرغمة، عن المغزى الأصلي للنزول إلى الكورنيش. يبدو أن عليها الاكتفاء باللحظات الأولى من سماء منجّمة وقمر، فوق أمواج بطيئة لن يبقى لها منها سوى صوت «فقشها» على الصخر. تعطي ظهرها للبحر. تدخل رأسها بين قضبان الألومنيوم العليا، وتصعد بجسدها. تمرين ليونة. تجلس على «المرتبة» المعدنية الثانية. صار وجهها إلى «جادة باريس». أمامها ذلك المبنى الشاهق.
هل هذا هو «برج الأحــــلام» الشــــهير الذي قيل إن فيفي عبده اشترت فيه شقة بأكثر من مليون دولار؟ والـــذي سرت إشاعات عن مرفأ صغير خـــاص، أسفل بنائه، ترسو فيه الــــقوارب السريعة التي قد يملكها السكان من المشــــاهير والأثرياء العرب واللبنانيين؟ بل ذهب البــــعض إلى «التأكيد»، إبان إنجاز المبنى، أن باســــتطاعة أصحاب الطوابق ـ الشقق الصعود إليها بسياراتهــــم، مستقــــلّين مصعداً خاصاً. خيالات كثيرة حامت حول البرج، ولم تســـمع رنا مرة عن أحد دخله وخرج ليخبرها بصحة المعلومات. فتلك مساحات ليست في متـــناولها أو متناول أي من معارفها. تلك مجالات للشطط بالحديث والأحلام في آخر سهرة، على البحر. هل هذا هو «برج الأحلام»؟ أم أنها تلك البناية العملاقة الأخرى؟
ليس مصطفى معنياً بسؤال «من سيدفع المليون» هذا. كل ما «يقهره» هو أنه لا يستطيع إيجاد السبيل إلى «وقفة طبيعية» تتيح له البحر وقهوته، من دون تصلّب في الساقين خلال النصف ساعة الباقي. وزن مصطفى يقارب مئة كيلوغرام. يستحيل عليه حشر نفسه، على طريقة صديقته «الفراشة»، كما يلقبها ممازحاً. يقرر افتراش الأرض، تاركاً لظهره أخذ شكل التقوّس «المريح» للدرابزين الفضي. لكن، «شو عملنا؟»، إذ يبقى الشارع (وسياراته وأضواؤه الصفراء وباطونه المتطاول) من أمامه، والبحر المشتهى من خلفه، ولا مفر.
منذ بدأت تتضح معالم الواجهة البحرية الجديدة، من عين المريسة إلى الرملة البيضاء، وقصص من النوع أعلاه تتداول بين رواد الكورنيش. تطالب سلمى بأن تكون المقاعد الجديدة أقرب إلى البحر. فطالما أنها «ورشة وقايمة»، لماذا يضعون المقاعد الجديدة بالضبط مكان القديمة؟ يزعج صاحبة النارجيلة البحرية أن ينغّص عليها المارة المتمهلون، والمهرولون الرياضيون، منظر الأفق المفتوح. فإذا اقتربت المقاعد الجديدة من الحافة أكثر، صار مرور هؤلاء من خلف الجالسين، و«الكل مبسوط». لكن سلمى تنسى أن عدد المقاعد لا يكفي الجميع، فثمة من يحضر كراسيه الصغيرة معه، والواقفون الذين «يتدلعون» على الدرابزين في وضعيات متعددة هم أكثر من الجالسين.
هنا ثنائي عاشق. هنا عناق، إذا كنت من رواد الكورنيش الدائمين فلا بد أنك ستلاحظ أنه تنويع جديد على رومانسيات المكان. تحيط ذراعا الشاب بالفتاة التي تتكئ عليهما تماماً من دون أن تلامس شيئاً غير جسم حبيبها، فيما يرخي هو جانبه الأيمن كاملاً على الدرابزين الجديد. الوجهان متقاربان، وقوفاً، والكلام همس وابتسامات. كان الدرابزين القديم أقصر بكثير، لا يصل على الأرجح إلى خصر الشاب. ربما كان ليفرض عليهما الجلوس متجاورين، ولو حضنها بذراع واحدة. من جهة أخرى، كان يمكن لكل منهما الجلوس مقابل وليفه، «بروفيل» للبحر وآخر للرصيف، فيحيط برؤية الحبيب والمشاة والبحر معاً. ربما يناسبهما الوضح الحالي أكثر. بعض الأهل أيضاً يشكرون التجديد. يعتبرونه أكثر أماناً لأولادهم الذين كان بوسعهم تسلّق الدرابزين العتيق بسهولة، أما الفضي المرتفع فيمنع محاولات «الانتحار» الطفولية تلك.
ليس هذا مجرد درابزين حديث، بمواصفات مختلفة. ليست الواجهة البحرية الجديدة، مجرد رصيف سويّ البلاط، بلغ البوابة البحرية للجامعة الأميركية، واعداً ـ بالرمل الممسّد ـ باستكمال طريقه جنوباً. والحفر المربّعة، التي تستعد لاستقبال المقاعد والنخلات المخضوضرة، ليست وحدها الباقية من المظاهر الذاهبة. هو تغيير في علاقات الناس ببعضهم البعض، وبمتنفسّهم المتاح على البحر والاسترخاء والرياضة. ثمة ما يبقى: البحر وكورنيشه ووظائفهما المتجددة. غير أن هناك انقلاباً إجبارياً في المشهد، لناظره، ولعموم أبطاله على حد سواء. ما عاد الحاجز بين الرصيف المأهول بأهل بيروت، وبين الشاطئ المقصود، يمتزج بالأزرق الكبير. فلننظر: اللون الفضـــي حــــديث جداً، بارز جداً، لامع جداً. ومع هــــبوط الظلام، يزيـــد نتــــوؤه، إذ يعكس أنوار الشارع فيضيء بدوره. هذا درابزين يقول بانتــــمائه إلى المدينة ونزواتها، أكثر منه إلى البحر. يحل محـــل سلـــفه، مقشّر الدهان، والذي كانت زرقــــته ابنة الأزرق الكبير، ليـــلاً نهاراً. النوستالجيا سهلة. الجديد «غـــريب»، والقـــديم غالباً ما يكون أحلى أو أجدى في عيون معتاديه. وبعد تفادي فخ الحنين المبسّط، يصحّ التأمل...
على رصيف الكورنيش: عجوز مألوفة للمواظبين، تدفع عربة أطفال مجنزرة فيها سجائر للبيع. تعتمر قبعة من بقايا انتخابات متنية غابرة كتب عليها «غبريال المر». مقهى «أنكل ديك» يعج بالزبائن وموظفيه الراكضين بالطلبات إلى السيارات. مقهى «ستيفز» لم يحتمل المنافسة فأقفل منذ زمن. وأقفل أيضاً «الطازج» وأفل نجم دجاجه السعودي النكهة. «ماكدونالدز» صامد، ويصمد البعض حتى بلوغه، أو بالأحرى بلوغ حمّامه وقضاء حاجتهم فيه، مفتخرين، كأصحاب مبدأ، بعدم «تنفيعه» بشراء ولو حبة بطاطا مقلية. رجل أربعيني يلقّم الطعم لصنارة صيد. يعبث بالقصبة قليلاً، قبل أن يحدد زاوية تجعلها تهدأ على الدرابزين الفضي الجديد. كأنه لم يتسن له الاعتياد على التعامل معه بعد. ثم يمــــشي خطوات معدودة ليجلس على مقعد حجري لم يقتلع حتى الآن من مكانه. يشعل سيجارة ويصفن في البحر. امرأتان بثياب الرياضة، المزدانة ببعض المجوهرات، تمشيان بســــرعة وتتحدثان. قرب «برج الأفق»، غير مكتمل البناء، مرفأ صيادي عين المريسة. في نهاية يوم طويل، ترتـــاح مراكبهم الخشبية. وبعضهم عاري الصدر، يغتسل بمياه حنفية مثبتة في جدار يحمل صورة الرئيس رفيق الحريري وابنه. عائلة تتنزه. أم محجبة وأب وولدان. سيارتهم مــوديل الثمانينات مركونة على بعد أمتار. عربتان لبيع الذرة، مسلوقة ومشـــوية، وأحياناً يحضر الفول بالكمّون، بلا علم لبناني يؤكد «وطنـــية» البائعَين. الرائحة لذيذة، تستدعي جوعاً كامناً. لافتة، بتوقيـــع «أنصار الجيش»، يلاعبها الهواء: «دماء شــهدائنا كرامة وعز بلادنا». إلى الأمام، قرب «مقهى الروضة» ومدينــــة الملاهي، عاد مكان الانفجار الذي استهدف النائب الشهيد وليد عيــدو إلى طبيعته تقريباً، لولا بقايا الردم المرصوف جانبــــاً. طبــقة وسطى تؤمّ المقهى. طبقة تشبهها، أو أدنى، تملأ فضاء الملاهي بصراخ الإثارة واللعب، لا سيما خلال عطلة عيد الفطر المنصرم، والخلفية أغنيات محمد فؤاد ونانسي عجرم.
إطار ذلك كله، وأكثر، درابزين فضي ما زال النايلون يلف بعض أجزائه. يحمل الصورة وأصواتها وروائحها، تماماً مثل اللافتة المثبتة عليه، وتعلن لشركة الألومنيوم صانعته، مع رقم الهاتف وسنة التأسيس.
هو الحاجز الجديد الذي يراد به «شبشبة» الكورنيش. يدشّنه البعض المعجب بـ«ترتيبه ونظافته»، على وصف طالب في الجامعة الأميركية يخرج من صفّه إليه بشكل شبه يومي. ويستنزل الحاجز نفسه لعنات من لم يتوصل إلى تطويع وقفته عليه بما يحفظ للنظر حقاً في الأبيض المتوسط. إنها الاستنكارات التي تذكّر بالمفكر الفرنسي، غي ديبور، حين نظّر لـ«المجتمع المشهدي»، حيث «الصور (الأشكال، الرموز، الأخيلة) علاقة اجتماعية بين الناس»... و«ما يجمع المشاهدين ليس أكثر من علاقة مبرمة ومركزية تحافظ على عزلاتهم. فالمشهد يعيد توحيد المتفرقات، لكنه يوحدها كمتفرقات».
تعليقات: