شاب فلسطيني مقيم في لبنان يلتقي أقرباءه المقيمين في فلسطين من خلف السياج الشائك بعد التحرير (أرشيف)
رسم الرابع والعشرون من أيار العام ألفين مفارقة كبيرة على طول ما عرف بـ «الشريط الحدودي» المحتل: المبعدون قسراً من قراهم وبلداتهم بسبب الإحتلال الإسرائيلي يسابقون العودة ـ التحرير بالزغاريد والأعلام وشارات النصر، يلاقيهم الصامدون في القرى.
في المقابل، ما زال مشهد آلاف المتعاملين مع العدو من عناصر ميليشيا لحد ببزاتهم العسكرية ماثلاً وهم يفرّون نحو «بوابة فاطمة» ليتوسلوا مشغّليهم السماح لهم بدخول فلسطين المحتلة.
لم يشهد لبنان في تاريخه خروجا جماعيا بهذا العدد الكبير كما حصل يوم تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. يومها، بقيت قوافل العملاء تنتظر طيلة النهار ذليلة، لكأن التاريخ أعاد نفسه بصورة مقلوبة. هؤلاء الذين كانوا يهينون الناس على المعابر خلال محاولاتهم التنقل بين المناطق المحتلة وتلك المحررة، باتوا أسرى اهانات من باعوا أنفسهم له.
منذ اللحظات الاولى لبدء الزحف الشعبي نحو القرى واقتحام مواقع المحتلين والعملاء، سرت شائعات كالنار في الهشيم بين صفوف عناصر ميليشيا لحد تفيد أن رجال المقاومة سيعلقون لهم المشانق في الساحات العامة.
لاحقا، تبين أن من روّج للشائعات هم ضباط الصف الاول من جيش لحد، اذ أن قرار المقاومة كان واضحا بتسليم كل عميل يتم القبض عليه إلى الدولة اللبنانية ممثلة بمخابرات الجيش التي كانت تستجوبه وتحيله إلى المحكمة العسكرية في بيروت.
في المحصلة، تمكن حوالي ستة آلاف شخص بينهم اطفال ونساء وعجز من اجتياز بوابة فاطمة نحو فلسطين. اندس نحو 1500 منهم بين الارتال العسكرية الإسرائيلية المندحرة. هؤلاء سبق لهم أن ارتكبوا جرائم مختلفة، وصدرت بحق بعضهم احكام غيابية من القضاء العسكري ابان فترة الاحتلال. منهم من أمر بقصف مناطق سكنية آمنة في المدن والقرى المحررة (قصف مدرسة في صيدا، قصف مدينة النبطية وقرى أخرى متاخمة للشريط المحتل)، ومنهم من اعتقل وعذب الأسرى في معتقل الخيام، وبينهم ضباط في «جهاز الـ504» التابع لميليشيا لحد.
التصنيف أمني وطبقي
بعيد وصولهم الى فلسطين المحتلة، صنفت إسرائيل العملاء وفق الآتي:
- من رتبة نقيب (أو آمر سرية وما فوق) يتبعون لوزارة الدفاع.
- العملاء الأمنيون يتبعون جهازي «الشين بيت» (الأمن الداخلي) و «الموساد».
- بقية الفارين وعائلاتهم يتبعون لوزارة الشؤون الاجتماعية (الاسرائيلية).
لم يقتصر التصنيف تبعا للمهام، بل خضع العملاء لتصنيف طبقي وزعوا بموجبه على مساكن في المستوطنات بحسب تراتبيتهم العسكرية. حاز ضباط الصف الاول (الأركان) وكبار الضباط وقادة الألوية والافواج والمسؤولون الامنيون على منازل فخمة في مستوطنتي «نهاريا» و «كريات شمونة»، بينما أسكن العناصر ذوو الرتب الصغيرة والمؤهلات العسكرية المتواضعة في مخيمات ومجمعات مهجورة في منطقة صفد، وتم تهديد المعترضين من بينهم بإعادتهم الى لبنان او زجهم في السجون، وفق ما افاد عدد من العائدين في حينه.
وانسحب التمييز أيضاً على نوعية الاستشفاء والطعام والبدل المادي المدفوع شهريا، اذ وصل الراتب الشهري الى 3200 «شيكل»، اي ما يعادل 711 دولاراً اميركيأً، هي نصف الحد الادنى للاجور في كيان العدو.
ومع هذا التمييز، اضطرالعديد من العملاء للعمل في اعمال مختلفة (بلغ الأمر حد التسول عند بعضهم) كغسل السيارات وحراسة الحدائق في المستوطنات، وسط مقاطعة تامة لهم من قبل فلسطينيي الـ48 الذين رفضوا دمج العملاء الخونة في مجتمعهم الفلسطيني.
مع مرور الوقت، خيّر الاسرائيليون عملاءهم بين تعويضات مالية وفق سنوات العمالة، او البقاء في فلسطين المحتلة وسط ظروف معيشية صعبة، فوافق جزء يسير منهم على العودة. وتلقى البعض تعويضات وصلت الى 80 الف دولار اميركي فيما نال البعض الآخر 20 ألف دولار. وكان الذين اختاروا العودة يعرفون مسبقا انهم سيخضعون لمحاكمات صورية، حيث لم يمكث معظم العملاء، ممن سبقوهم الى المحاكمات، أكثر من عامين في سجن «رومية».
وهكذا وصل عديد العائدين الى 3200 شخص بينهم حوالي 155 جثة لمن توفوا لأسباب مرضية. كانت مخابرات الجيش اللبناني تتسلمهم من قوات الطوارئ الدولية عند معبر الناقورة، ثم تصنفهم وفق ملفاتها الموثقة عنهم، ثم تسمح للنساء والاطفال بالعودة الى قراهم. لاحقاً يتم استدعاء النساء الى المحكمة العسكرية للمحاكمة بجنحة دخول «بلاد العدو». واقتصرت عقوبتهن على غرامة مالية قدرها 500 الف ليرة لبنانية اي نحو 333 دولارا اميركيا فقط لا غير.
قسم اخر من العملاء (قرابة 1500 عائلة) ترك فلسطين المحتلة نحو بلدان أخرى كأميركا وهولندا وكندا وفنزويلا واستراليا والمانيا وبريطانيا والدانمارك وساحل العاج وقبرص، ليقين بعض العملاء أن ملفهم الأمني في لبنان ضخم، ولا يمكن للقضاء اللبناني «ان يبلعه»، فآثروا الفرار مع عائلاتهم. ورفضت دول أوروبية عدة منح تأشيرات دخول لنحو ستمئة عميل وبالتالي لم تستقبلهم على اراضيها. حصل الأمرنفسه مع العميلة جانيت حداد (مواليد العام 1970) التي هربت في العام 2000، وأرادت اللحاق بزوجها المقيم في كندا منذ العام 1981 إلاّ ان عملها في «جهاز الإشارة» اللحدي في ثكنة مرجعيون لمدة 8 سنوات اعتبر بالنسبة للكنديين بمثابة عمل استخباري (تنصت)، فلم تمنح تأشيرة دخول.
بقي في الكيان الصهيوني قرابة 1750 شخصاً لبنانيا، من كل الطوائف ومعظمهم من الجنوب اللبناني. وقد صدرت بحق حوالي ستمئة عميل منهم أحكام قضائية غيابية بسبب جرائم اقترفوها على الاراضي اللبنانية سندا الى المواد 272 حتى المواد 285 من قانون العقوبات اللبناني، وتترواح عقوبتها بين سنوات عدة والمؤبد، إضافة الى الحكم على حوالي 20 عميلاً بالاعدام. كما يوجد نحو مئتي حكم قضائي بحق مطلوبين بسبب حصولهم على الجنسية الاسرائيلية (منحت سلطات الاحتلال ثمانمئة عميل الجنسية الاسرائيلية) اثر تقدم البعض منهم بطلب لجوء سياسي او الزواج من شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية او التطوع لخدمة العدو من خلال الانخراط في وحدات «المستعربين» التابعة لجيشه. وتكمن مهمة هذه الوحدة بالتنكر بهيئة عربية للايقاع بالناشطين الفلسطينيين عبر تصفيتهم او اعتقالهم وحتى التنكيل بالاهالي، وهذا ما اكده شهود عيان من قرية «بيتا» الفلسطينية قرب نابلس، أفادوا أن «لحديين» اقتحموا في حزيران 2001 قريتهم، ناهيك عن عشرات القصص عن قيام أشخاص لهجتهم «لبنانية» بتفتيش الفلسطينيين واستجوابهم على الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية!
تعليقات: