«أبو أحمد» خلال تبييض الأواني: آخر العاملين بالمهنة في الجنوب: أحاول أنْ أذكّر الناس بهذه الحرفة الرائعة
أليس من واجب الدولة أنْ تُقيم معرضاً سنوياً للمهن والحرف القديمة كنوع من السياحة؟!
ما زالت «مهنة مبيّض» النحاس في لبنان تتحدّى الزمن وتتّجه نحو لفظ الأنفاس الأخيرة، وهي من المهن والحِرف التي انقرضت وتلاشت عبر الزمن، فكانت هذه الحرفـة تُدرُّ ربحاً كبيراً على مَنْ يعمل بها ويحمل إسم «مبيّض النحاس»...
ففي بلدات وقرى جنوبية كانت الأسر تقتني النحاس اقتنائها للذهب، حيث مهنة «مبيّض النحاس» من المهن المزدهرة على مدى السنوات الماضية الطويلة، ولها مكانة كبيرة في المجتمع، فقد كان يُخصّص له يوم محدّد يمر فيه على الحي أو القرية، ويتجمّع الأهالي وأوانيهم النحاسية، فيقوم «مبيّض النحاس» باستعمال أدواته، وغالباً ما كانت تشاركه زوجته في العمل...
وكانت مهنة «مبيّض النحاس» قد اشتهرت في القرى الجنوبية مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تُعتبر بلدة جويا سيّدتها، بعدما اكتسبها أحد أبنائها من مُعلّم «مصري» كان يتجوّل بين أحياء البلدة والقرى المجاورة، لتبدأ بالانتشار بين شبابها الذين جابوا القرى الجنوبية محوّلين سواد الأواني إلى الأبيض، ولتشتهر بذلك بلدة جويا بكثرة العاملين في تبييض النحاس...
«لـواء صيدا والجنوب» يُسلّط الضوء على هذه المهنة، ويلتقي المبيّض «أبو أحمد»، الذي أصبح من القلائل يحترفون هذه المهنة، وآخر العاملين فيها في جنوب لبنان...
مهنة تتلاشى
{ يجلس «أبو أحمد» المبيّض على كورنيش صور البحري، يفترش عدّته، وبعض النحاسيات وينطلق في العمل، وكأنّه يريد أنْ يذكّر الناس بهذه الحرفة التي أصبحت تتلاشى وتتناسى، يحمل قماشة بيده، فيما رائحة دخان القصدير، النشادر والملح تنبعث من القِدر الذي يُبيّضه، ليؤكد أنّ «البياض واقعاً مستحيل أنْ نعيش بدونه، وأنّ السواد والصدأ ذهب بلا رجعة».
«أبو أحمد» لم يكل يوماً، ولم ييأس من ممارسة مهنته في تبييض الأواني النحاسية «العتيقة»، رغم كل ما اجتاح العصر من حداثة، إلا أنّه واظب على مهتنه، فهو يقاوم كل «التجاهل» الذي أصاب واحدة من أهم المهن الحرفية القديمة، فلا أحد يذكر المبيّض وصوته الشجي الذي يصدح به وهو يجوب الحارات والقرى والبلدات، وهو يردّد عبارته الشهيرة «مبيّض... مبيّض»، لا تزال تلك الكلمة تتردّد بين كبار السن من السيدات، يتذكّرن جيداً كيف كن ينتظرن قدوم «المبيّض» ليبيّض لهن الأواني النحاسية التي تآكلها الصدأ، فتلك الصورة قد دخلت في زمن النسيان، بعد أنْ استباحت «طناجر التيفال» وشلّتها المطابخ، واختفى الطهي بالطناجر النحاسية، وبالتالي خسر «المبيّض» مهنته، ومعها حياته الحرفية.
ضحكة «أبو أحمد» لا تفارقه ويقول وهو منهمك بالعمل: «لقد تعلّمت المهنة عن أبي، أما أولادي لا أحد منهم يريد أنْ يتعلّمها، فأصبحتُ وحيداً أصارع من أجل بقائها، فهذه الحرفة تدخل النفق الأخير، ويمكن بعد سنوات أن لا يعرف الناس ما معنى تبييض النحاس».
آخر العاملين
وقد مرَّ على «أبو أحمد» في هذه المهنة أكثر من 55 عاماً وتقريباً هو آخر العاملين فيها في جنوب لبنان، يتابع كلامه وفي قلبه غصّة: «أحاول أنْ أحفظها خوفاً من أنْ تموت أسوة بغيرها من الحرف، وأنا أسعى لنشر ثقافتها من خلال تجوّلي عبر المدن والقرى، اختار أحياناً أماكن عامة أفرش فيها عدّتي وأمضي في عملي، آملاً أنْ يزرع الغيرة والحب داخل الناس».
«أبو أحمد» من القلائل الذين يواظبون على هذه المهنة ويعتاش منها، متحدّياً كافة الظروف التي يمر بها»، ويسأل: «أين أصبحت سياسة حماية المهن القديمة؟، أليس من واجب الدولة أنْ تُقيم معرضاً سنوياً للمهن القديمة كنوع من السياحة؟ بيد أنّ لا أحد يلتفت إلى الحِرف العتيقة المنسية... رغم كل الصعوبات إلا أنّني أحب هذه الحِرفة وأعشقها وأشعر بسعادة في عملي، وإنّ عملية التبييض تتم مرّة كل شهر وتستغرق كل قطعة وقتاً حسب حاجتها، كانت للعمل لذّة وجمال، وكانت المهنة تاجاً فوق الرأس».
يقف المارة ليراقبوا عمله بإعجاب، يبتسم «أبو أحمد» لهم ويقول: «إنّهم مندهشون من هذه المهنة التي انقرضت، ولم يعد أحد يسمع عنها أو يراها، وكأنّهم يشاهدون مهنة غريبة عن واقعهم، وحياتهم... فهذا الجيل لم يرََ مبيّضاً يعمل، لذلك شعرت بالسعادة وأنا أعمل وأستمع إليهم».
ذكريات الماضي
لم يتوقّف «أبو أحمد» عن الكلام وذكريات الماضي... ورغم تجاعيد وجهه إلا أنّه لم يكابر على عمره، فيرسم ضحكته أثناء العمل، يرمي بالنكتة هنا وهناك، وهو يحكي «سوالف» أيام زمان، كيف كان المبيّض يعرف أوضاع الناس، ظروفهم وطريقة حياتهم.
ساعة من العمل يجتازها «أبو أحمد»، ليتحوّل القِدر الأسود إلى أبيض لامع وتتمكّن ربّة المنزل من استخدامه لـلـ «هريسة» و»الولائم» وغيرها، بعدما جرى الإستغناء عنها لصالح طناجر ألمنيوم، تيفال وغيرهما، أما في السابق فقد تعدّدت أشكال الأواني النحاسية على اختلاف أنواعها، فمنها ما كان يُستخدم في طهي الطعام، ومنها ما كان مخصّصاً لغسيل الملابس، ومنها ما كان يُستخدم في غسيل الأيدي، ويُقاس مدى ثراء الأسرة أو فقرها بعدد أواني النحاس التي تمتلكها، والتي كانت جزءا لا غنى عنه في كل منزل، خاصة في جهاز العروس التي كانت تتباهى بين الناس بنحاسها...
أطباق واستكانات القهوة وقدرة الفول
ويضيف: «المبيّض طبيب مختص بتنظيف الأدوات المنزلية النحاسية كي تحافظ على وضعها الصحي بطلائها بمادة القصدير، لأنّ النحاس كان جزءا مهما من تركيبة المطبخ، لكن للأسف أصبح النحاس «زينة» في المنازل يتسابق كثر لاقتنائها كونها تحفة تراثية نادرة، لذلك خفّتُ على هذه المهنة النادرة، وقمتُ بفرش عدّتي وبدأت بالعمل، حيث وضعتُ «دستاً نحاسياً وطناجر وأباريق ومعها عدّة «المبيّض»، وهدفي تحويل هذه الحرفة المنسية إلى مسرح تفاعلي، وربما «صندوق فرجة» علّه يستقطب جيل اليوم إليه، أقلّه من باب حماية الحرف القديمة المنسية».
ويختم «أبو أحمد»: «إنّ الدخان يتصاعد من حولي نتيجة المواد التي استخدمها (النشادر والملح والقصدير) لإزالة اللون الأسود عن (الطناجر)، أحمل ملقط الحديد بيدي وملقط طرف الطنجرة، وأضعها على النار، وقبل العمل أتفحّص جيداً مادة النشادر، لتنطلق مرحلة التبييض ثم أقوم بفركه بقطعة من (القطن الخشن)، لتبدأ في إزالة الأوساخ، ويُصار إلى مسحه بقطعة فماشية، ويُغسل بالماء ويوضع تحت أشعة الشمس ليجف، وبذلك تنتهي عملية تبييض النحاس».
تعتبر مهنة «المبيّض» مدرسة في الحياة، نتعرّف من خلالها على واقع الناس ويومياتهم، على حكاياتهم وقصصهم.
تعليقات: