مواطنة من حولا تحتفل بتحرير الجنوب وتحرير الأسرى (أرشيف)
هي المرأة ذاتها. إبنة حولا التي تسللت في إحدى ليالي الاحتلال الإسرائيلي الطويلة، وزرعت عبوتين ولغمين على طريق تسلكها «الميركافا» وفجرتها كلها. هي نفسها اليوم تخفض عينيها الجميلتين فتتبدى وجنتاها الآخذتان حمرة شمس الحقول، فتطلب عدم ذكر اسمها على صفحات الجريدة: «لربما أحمل السلاح مجدداً، لا أريد كشف هويتي»، قبل أن تستدرك ضاحكة: «إسمي بنت الجنوب».
مع كلماتها هذه، لا يمكنك إلا أن تبتسم ولو سراً: لا تريد كشف نفسها! كيف؟ وهي واحدة من نحو 50 امرأة أسيرة من حولا وحدها، قال الناس عنهن يوم التحرير إنهن يجب أن يعدنَ إلى البلدة من الطريق نفسه الذي عاد عبره صنَّاع التحرير.
قصة حولا مع المقاومة تعود إلى المجزرة الأولى التي ارتكبها الإسرائيليون بنحو تسعين طفلاً وشاباً وشيخاً وامرأة في البلدة التي حمل أبناؤها السلاح مع «جيش الإنقاذ العربي» لنجدة فلسطين في العام 1948. قصة ما زالت مستمرة شكل الشيوعيون فيها باكورة المقاومة منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، لينضم إليهم لاحقاً مقاومون من أحزاب أخرى أبرزها «أمل» و «حزب الله». قصة تبدو معها حولا بلدة لم ترو حكايتها مع المقاومة بعد.
حولا البلدة الحبلى بتلالها ووديانها وحقولها وناسها بفصول من رواية طويلة وجميلة. تشي بذلك روايات المقاومات الأسيرات أو اللواتي نجونَ من الأسْر والتنكيل والموت حين يجتمعن في جلسة سمر، فتتشابك الأحداث والأحاديث ويختلط حابل ذكريات الفرح بنابل الحزن. الحزن على رفاق سلاح استشهدوا قبل أن يسمعوا زغاريد التحرير، ويرفعوا رايات النصر التي ساهموا بحياكتها يوماً بيوم.
وفي حولا، كل أم مقاومة، ولديها الكثير مما يروى. أمهات قبضنَ على جمر القلق 22 عاماً من الاحتلال. يكفيهن فخراً أنهنَّ أنجبنَ 500 أسير في البلدة، ما عدا الشهداء والجرحى.
لم تكن «بنت الجنوب» قد بلغت العشرين من عمرها عندما انخرطت في المقاومة. كانت تخفي أجهزة الاتصال والأسلحة حتى عن أهلها «ما خبرتهم، بعدين عرفت أمي لأبرر خروجي ليلاً».
بين شتول التبغ وأحمال الحطب نقلنَ للمقاومين السلاح. تتذكر بفرح طفولي كيف كانت ألبست أحد المقاومين عباءة وحجاباً وتأبطت ذراعه لترافقه تحت ذريعة جمع الحطب نحو الوديان لإخراجه من البلدة بعد إصابته بعملية.
لا تذكر عدد المرات التي نقلت فيها عبوات إلى أقرب نقطة ممكنة للمقاومين قبل أن ينفذوا عملية ضد مواقع الاحتلال أو الميليشيا المتعاملة معه «كان الشغل يومياً، ولا أذكر كم مهمة نفذت»، تقول وهي تقلل من أهمية ما فعلت. العمل نفسه توزع على رصد كانت تنفذه وهي تزرع شتول التبغ. مرات كثيرة جرحت يديها خلال شك الدخان «تكون عيوني عَ الرصد وكنت أشك الميبر (المسلة التي يشكُّون بها الدخان) بيدي بدل أوراق الدخان».
بدأت «بنت الجنوب» التهيؤ لاعتقالها في اليوم الذي منعوها فيه على حاجز بيت ياحون من النزول إلى بيروت «عرفت أنهم سيعتقلوني». ولم يخب ظنها. بعد أيام عدة، وكانت تصلي، سمعت أحدهم يسأل عنها فعرفت على الفور ما ينتظرها. أنهت صلاتها ولبست ثياباً تعرف أنها قد تبقى فيها لسنوات وخرجت إلى مصيرها. لا تتحدث «بنت الجنوب» عن عذابات المعتقل «عذبونا حتى الموت، لكن معظمنا لم يعترف ولم يتعامل». تريد أن تنسى السجن الإفرادي ومحاولات إذلالها.
نداء.. «الرسالة»
«بنت الحنوب» كانت عزباء، لكن نداء محمد سليم كانت تحمل على ذراعيها طفلتها، ابنة الـ 15 يوماً أمام معتقل الخيام، حين قبضوا عليها. كانت نداء تزور زوجها المقاوم المعتقل عندما طلبوا منها الانتظار مع والدتها. قالت لأمها «سيعتقلوننا». وهكذا كان. ترك اللحديون طفلتها عند باب المعتقل وحيدة، وأخذوها مع أمها لتنضما إلى زوجها وثلاثة من أشقائها، وكثر من أبناء البلدة.
تتذكر نداء عندما ساقت ميليشيا لحد معظم أبناء حولا ليحققوا بمن وضع رسالة التهديد لمسؤولها في البلدة على عتبة داره. أما الذكرى التي تُضحكها اليوم فتتعلق بالشعارات المقاومة التي خطتها على جدران حولا في ليلة مظلمة. يومها، وعند الصباح التالي أتوا بشباب كثر وراحوا يقيسون قاماتهم على الجدران لمطابقتها مع مستوى الشعارات. وكما نجت من «الرسالة»، لم يبادر العملاء الى قياس طولها!.
أما الأسلحة التي دفنتها نداء، فبقيت إلى ما بعد التحرير «برغم أنهم فتشوا منزلنا مرات عدة». يبقى الأجمل بالنسبة إليها شعورها يوم التحرير «كان للزغاريد طعمٌ مختلف ولا يُنسى».
الحاجة المقاومة
التنكيل هو ما عانت منه الحاجة فاطمة شبيب قطيش. تجلس ابنة الثمانين عاماً على مصطبة دارها لتتولى زميلتها تعريفها بأنها «عميدة أسيرات حولا». منها تعلمت معظم نساء حولا كيف يخبئنَ سلاح أبنائهنَّ المقاومين في الحقول ويزرعنَ فوقه شتول الخضار. إثر إحدى العمليات التي شارك فيها أكثر من شاب من ابنائها الأربعة الذين اعتقلوا تباعاً، علمت الحاجة بمداهمة إسرائيلية فأقدمت على نقل أسلحة العملية وأجهزة التفجير ودفنها في تراب الدار وقلعت شتول البصل وزرعتها على عجل فوقها ثم روتها بالماء. جاء جنود الاحتلال ولم يعثروا على شيء. تفتخر اليوم أنها كانت من أكثر الأسيرات صبراً «صار جسمي أزرق متل النيل من الضرب بس ما صرخت ولا مرة». فقط بكت عندما وجه إليها مسؤول لحدي، تتذكر اسمه جيداً، كلاماً نابياً فردت عليه بكلمتين: «هيدي أمك». تسألها كيف ربَّت أربعة رجال مقاومين وصمدت فترة الاحتلال كلها فتقول ضاحكة «أنا ربيتهم وهم ربوني أيضاً».
تعليقات: