معن بشور
لم تكن مجزرة القصف الجوي الأميركي لمدينة الصدر في بغداد قبل أيام، والتي أودت ـ حسب الناطق الأميركي ـ بحياة 49 شهيدا عراقيا، بينهم اطفال ونساء، هي المجزرة الأولى بحق مدينة فقراء العاصمة العراقية، ولا هي المجزرة الأولى التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق احياء بغداد الصامدة الصابرة المجاهدة كالأعظمية والكاظمية وشارع حيفا والعامرية والدورة وساحة النسور وباب الشرقي والجامعة والشعلة والعامل والكرادة. ولا هي بالطبع المجزرة الوحيدة في بلد اعادت مجازر الاحتلال رسم خارطته من جديد بدماء اكثر من مليون عراقي شكلوا سلسلة من الشهادات المؤلمة على عنف المحتل ودمويته. والمجازر سلسلة ممتدة من أقاصي الجنوب العراقي حتى أقاصي الشمال مرورا بالعاصمة بغداد وغربها في الفلوجة وسائر مدن الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وشرقها في بعقوبة والخالص وسائر مدن ديالى، وجنوبها ووسطها الممتد مما أسماه المحتلون بمثلث الموت وصولا الى الحلة والكوفة وكربلاء وامتدادا الى الديوانية والسماوة والناصرية والعمارة والبصرة عروسة شط العرب، حيث تركت مجازر المحتل وعملائه بصماتها في مقابر جماعية او فتن مذهبية او اغتيالات لعلماء او ضباط او مناضلين.
إلا ان للمجزرة الجديدة جملة معان ودلالات ينبغي الوقوف عندها، خصوصا ان مجيئها يتزامن مع ما يشهد شمال العراق (أي اقليم كردستان) من تطورات خطيرة تظهر حجم حرص المحتلين على فئات ومناطق ادعوا أنهم شنوا حربا على العراق لانقاذها.
أولا: ان هذه المجزرة الجماعية الجديدة تأتي في ظل ادعاءات اميركية بنجاح مزعوم في احلال الأمن والاستقرار في ربوع العراق، وخاصة في العاصمة بغداد، فاذ بنا نجد قوات الاحتلال تستخدم سلاح الجو في قصف احياء مدينة آمنة وقتل سكانها الابرياء، وهو قصف لا تفسير له الا ان المحتل يعيد احتلال بغداد من جديد او على الأقل انه يعجز عن دخول مدينة الثورة (وهو الاسم الأصلي لمدينة الصدر) بقواته البرية فيعمد الى القصف الجوي، وكلا التفسيرين يحملان ادانة لقوات الاحتلال وأدواتها ويكشفان عجز هذه القوات وطبيعتها العدوانية المتوحشة.
ثانيا: ان اختيار هذه المدينة بالذات، المعروفة بلونها المذهبي الخاص، تأكيد جديد على ان الاحتلال الأميركي لا يميز في عدوانيته ومجازره وجرائمه بين عراقي وآخر، وبين فئة عراقية وأخرى، كما انه تأكيد آخر على أن العراقيين، رغم كل محاولات الفتنة والتفرقة المتواصلة التي قام بها المحتل منذ ما قبل الحرب العدوانية على العراق حتى قرار مجلس الشيوخ غير الملزم بتقسيم العراق، ما زالوا مجمعين على رفض الاحتلال والتقسيم واعتبارهما المسؤولين الرئيسيين عن كل ما يواجهه العراقيون من آلام ودماء واضطراب.
ان كل استطلاعات الرأي التي قامت بها مراكز ابحاث ودراسات بتكليف من ادارة الاحتلال نفسها قد اظهرت ان 80٪ من العراقيين على الأقل يريدون خروج قوات الاحتلال من بلادهم، وانهم يحملونها مسؤولية التدهور الأمني فيها، وهو ما كرره ايضا اكثر من مسؤول اميركي او بريطاني، حالي او سابق، حين قال: ان وجود قوات التحالف يزيد من التدهور الأمني ولا يقلل منه.
ثالثا: ان هذه المجزرة الجديدة تأتي لتضع المجتمع الدولي، ومعه النظام الرسمي العربي، على المحك ازاء ما يتعرض له العراق في ظل الاحتلال، بل لتحمله مسؤولية كبرى عن الدماء التي تسفك كل يوم في بلاد الرافدين، لأن هذا المجتمع الدولي، ومعه النظام الرسمي العربي، وربما قبله، هو الذي وفر الغطاء للحرب العدوانية على العراق، وبعدها للاحتلال وكل افرازاته وتداعياته، وقبلها للحصار وكل اوجاعه وخسائره، بل هو الذي لا يحرك ساكنا ضد الجرائم المتتالية التي يرتكبها المحتل، مباشرة او بالواسطة، علنا او سرا، خصوصا حين وافق مجلس الأمن، ومعه جامعة الدول العربية، على اعتبار قوات الاحتلال بمثابة قوات متعددة الجنسيات، بل على توفير الغطاء الدولي والعربي لما سمي بعملية انتقال السيادة الى «الحكومة العراقية» في حزيران .2004
فأكذوبة «السيادة» هذه لم تكشفها عشرات المجازر والاجراءات والقرارات والممارسات التي عجت بها السنوات الأربع والنصف التي مرت على الاحتلال فحسب، بل كشفتها ايضا الفضيحة المتصلة بعمل ما يسمى «بالشركات الأمنية الخاصة» في ضوء مجزرة ساحة النسور التي نفذها «متعاقدو» شركة بلاك ووتر بحق مدنيين عراقيين.
فالذي يتابع المناقشات الجارية في أوساط الكونغرس حول الوضع القانوني لهذه الشركات، التي بدأت بالظهور مع ظهور فكرة «العولمة» والنظام العالمي الجديد في اوائل التسعينات، وبأي وزارة ترتبط في واشنطن (الدفاع او الخارجية) وأي محكمة تحاكم المرتكبين من عناصرها، يلاحظ بوضوح كيف ان عمل هذه الشركات الأمنية الخاصة، بموجب المذكرة 175 التي أصدرها (بريمر اول حاكم عسكري بعد الاحتلال)، يشكل مسا فاضحا بالسيادة العراقية، وخروجا خطيرا على القانون الأميركي نفسه.
لقد باتت الشركات الأمنية الخاصة أحد اطراف مثلث آليات العولمة المتوحشة بحيث تتكامل مع مخطط اثارة الفتنة العرقية والدينية والمذهبية من جهة، ومع حروب الابادة الجماعية التي باتت قوى التحالف الصهيو ـ أميركي تطبقها في كل مكان داخل سجون الاحتلال وخارجها، بذرائع واهية او حتى بدون أي ذرائع من جهة أخرى.
ان هذه المجازر الممتدة مكانا، والمتواصلة زمانا، في كل انحاء العراق، وفي كل السنوات المنقضية منذ الحرب والاحتلال، وقبلهما حصار 13 عاما، هي اولا دعوة صريحة لكل العراقيين المناهضين للاحتلال، والمقاومين له بالسلاح او الموقف، لكي يوحدوا صفوفهم، ويتجاوزوا ما بينهم من حساسيات وذكريات مؤلمة، والنظر الى مأساوية الحاضر وآفاق المستقبل بدلا من الاستغراق المقيت في مراحل الماضي والتوقف عند صفحات قاسية من هذا الماضي، فالماضي، القريب والبعيد، هنا يفرق العراقيين ويقوي الاحتلال وأدواته، فيما النظر نحو المستقبل يجمع ويطلق ديناميات التواصل والتفاعل والتكامل بين كل العراقيين.
ولنتحدث هنا بصراحة كاملة، فالقوى السياسية العراقية التي بررت مشاركتها في العملية السياسية بذريعة محاصرة الاحتلال سياسيا لاستعجال خروجه، او بذريعة التخفيف عن ابناء جلدتهم ومنع تهميشهم، او بذريعة اعادة تقاسم السلطة لصالح فريق كان مهمشا لفترة طويلة ـ حسب قولهم ـ مدعوة اليوم للخروج نهائيا من «العملية السياسية» التي شكلت على مدى سنوات العجلة الثانية، مع قوات الاحتلال، في عربة الهيمنة الاستعمارية على العراق.
فاذا كانت العجلة الأولى، أي قوات الاحتلال، تتعثر كل يوم بفضل ضربات المقاومة العراقية الباسلة، فان توقف العجلة الثانية، أي العملية السياسية، سيقود حتما الى انهيار سريع لمشروع الاحتلال الذي لم ينجح الا في اللعب على التناقضات الموجودة بين العراقيين.
اما الدعوة الثانية فهي لجموع البعثيين ولقيادتهم، وقد اجتمع قبل أسابيع تحت ظل قائدهم عزت الدوري اكثر من 22 فصيلا مقاوما، بان يعلنوا على الملأ مراجعة جريئة وصريحة لتجربة العقود الثلاثة التي أمضاها حزبهم في الحكم، بكل ايجابياتها وسلبياتها، وصولا الى تعهدات مستقبلية بتجنب اخطاء الماضي وأبرزها احتكار السلطة وتغليب المعالجات الأمنية لمشكلات العراق على المعالجات السياسية.
وللحق يقال ان بذور هذه المراجعة، وان بدايات هذه التعهدات قد بدأت تظهر في أدبيات هذا الحزب الذي اثبت انه من أقوى الاحزاب في العراق بل ومن أعرقها وأعمقها جذورا في وجه كل محاولات الاجتثاث لأنه ارتبط منذ تأسيسه بوحدة العراق العابرة للأعراق والأديان والمذاهب، ولعروبة العراق بوجه كل التحديات والأخطار.
الدعوة الثالثة هي الدعوة الموجهة للتيار الصدري وعلى رأسه السيد مقتدى الصدر الذي أفشل في أكثر من محطة مخططات واشنطن بتصوير «الشيعة» كطائفة مناصرة لاحتلال بلدهم، والذي خاض اكثر من معركة ضارية ضد قوات الاحتلال وأدواتها.
هذه الدعوة ترتكز على ثلاث أولها الانفتاح الكامل على كل القوى العراقية المناهضة للاحتلال دون استثناء وثانيها السعي الى تشكيل جبهة عراقية عريضة هي الرد الحقيقي على مجازر الاحتلال وهي السد الحقيقي بوجه أي فراغ او فوضى يريد الاحتلال ان يسقط العراق فيهما اذا اضطر للرحيل، وثالثها الخروج من أسر تجارب مريرة مر بها العراقيون جميعا، وما زالوا، في علاقاتهم الداخلية، والمعالجة الحازمة لاختراقات، بات الكل يدرك سلبياتها على سمعة الصدر ودوره.
لقد غرق الجميع في دماء الجميع، قبل الاحتلال وبعده، والمطلوب اليوم ان يخرج العراقيون جميعا من بحيرة الدم التي ادخلهم اليها الاحتلال ورفيقه الدائم الاحتراب الأهلي القائم على الجهل والتعصب.
الدعوة الرابعة موجهة الى جهات وهيئات قومية واسلامية، ممن لم يكن طرفا في صراعات دموية سابقة في العراق كهيئة علماء المسلمين، وكالمؤتمر التأسيسي الوطني وحزب الفضيلة والتيار القومي العربي وكعلماء بارزين كالخالصي، والبغدادي، وفاضل المالكي، واليعقوبي وكزعماء العشائر الرافضة لاغراءات المحتل وممارساته وغيرهم من اطراف المقاومة المسلحة والسياسية من اجل ان تلعب دورها مع كافة الجهات فتسعى اولا الى توحيد جبهات المقاومة الممتدة على كامل الارض العراقية وتسعى ثانيا الى اقامة جسور الحوار والتنسيق بين كافة القوى المناهضة للاحتلال والتي ما زالت اسيرة صراعات الماضي.
الدعوة الخامسة موجهة الى الاخوة الاكراد الذين جمعتنا معهم وما تزال روابط الاخوة والكفاح المشترك، ووشائج العقيدة والحضارة والمصير، والذين لا تصدق دعوتنا كقوميين عرب الا اذا احتضنا معهم حقوقهم القومية والثقافية.
ان الأخوة الأكراد وقياداتهم الحالية التي تواجه انقسامات واعتراضات متزايدة داخل مناطق نفوذها، مدعوون ايضا، في هذه اللحظة التاريخية العصيبة من تاريخهم وتاريخ العراق، لا سيما في ظل التوتر على الحدود التركية، بان يدركوا اكثر من أي وقت مضى ان الحماية الحقيقية لهم تكمن في وحدة العراق ودولته الجامعة والموحدة، التي تصون حقوق الأكراد ومكتسباتهم لكنها تمنع تقسيم العراق حسب المخططات الصهيو ـ اميركية الحالية، وبالتالي ان يتصرفوا على هذا الأساس فيعيدون نسج علاقاتهم بباقي القوى الوطنية والاسلامية العراقية، خصوصا المناهضة منها للاحتلال، ويفتحون الباب واسعا لمفاوضات عراقية ـ تركية تصون سيادة العراق وسلامة اراضيه من جهة وتحمي امن تركيا واستقرارها وهما جزء من امن الاقليم الجيوسياسي والحضاري واستقراره. ويعيدون النظر بكل القوانين والقرارات المجحفة، التي صدرت في ظروف الاحتلال القسرية، لتعطي مكاسب وهمية لهذا الطرف او ذاك، فيما كل الأمور تؤكد انه حين يخسر العراق ككل فلا يمكن لأي طرف عراقي ان يكسب.
الدعوة السادسة موجهة الى القيادة الايرانية من أجل مراجعة جريئة وعميقة لمجمل سياسات وممارسات ومواقف تجاه العراق وقضيته، فتفتح الحوار مع كل ألوان الطيف العراقي المقاوم للاحتلال، وتستمع باهتمام الى ملاحظاته، وتعمل على اعادة بناء جسور الثقة مع كل اطراف المقاومة الفاعلة المتمسكة بوحدة العراق وعروبته، وتسقط جملة التباسات علقت بهذه السياسة بما يحصن العلاقة الايرانية ـ العراقية خصوصا، والعلاقة الايرانية ـ العربية عموما في اطار المواجهة المشتركة الشاملة للمشروع الصهيو ـ اميركي في المنطقة.
طبعا ليست مجزرة مدينة الصدر، قبل أيام قليلة، هي اول المجازر الجماعية التي نفذها المحتل، ولا هي ابشعها واخطرها واكثرها وحشية، ولكن وقوعها مع التطورات الخطيرة التي يعيشها شمال العراق، يحمل دلالات ومعاني، ويعزز دعوات ونداءات من أجل تعزيز وحدة العراق ومقاومته على طريق التحرير والديموقراطية والعروبة الحضارية المستوعبة لكل الخصوصيات العرقية والقومية.
تعليقات: