غريغوار حداد (1924): \"محفظته فارغة دائماً\". لا يعني ذلك أنه فقير أو يقصد أن يكون كذلك، بقدر ما هو بعيد عن التكلّف
قبلَ أن يرقد في المستشفى، كان يمكن أن تجده في منطقة عرسال البقاعية، ينتظر أن تقلّه سيارة أجرة إلى العاصمة اللبنانية بيروت. هنا، سنناديه غريغوار، كما كان يطلب من الجميع مناداته. هؤلاء كانوا يستجيبون له في الخاص، ويلتزمون بالرسميات في العام، فيصبح سيادة المطران. سنكون على طبيعتنا كما يفعل هو، حين لا يخجل أن يطلب من صديقه خمسة آلاف ليرة ليذهب إلى مكان ما. هذا هو غريغوار حداد (1924)، يقول صديقه الباحث الاجتماعي والناشط شبيب دياب. "محفظته فارغة دائماً". لا يعني ذلك أنه فقير أو يقصد أن يكون كذلك، بقدر ما هو بعيد عن التكلّف. في إحدى المرات، سأله عن المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها. أخبره عن تييار دو شاردان، الفيلسوف والكاهن والجيولوجي الفرنسي. في كتابه "ظاهرة الإنسان"، شرح الأخير تطور الكون بعيداً عن تفسيرات سفر التكوين التقليدية لصالح تفسير أقل صرامة، ما أثار حفيظة بعض رجال الفاتيكان. يعدّ غريغوار نفسه من مدرسته. ليس المطران الأحمر ولا مطران الفقراء. بل إنساناً يخدم الإنسان. هذه رسالته على الأرض. وبرأيه، يجب أن تكون رسالة كل إنسان. في هاتين الصفتين وغيرهما، سعت فئات كثيرة إلى نسبه إليها. لدى تواجده في ليبيا في إحدى المرات، قال الشهادة. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. في اليوم التالي، عنونت الصحف أن غريغوار حداد أسلم، فيما اتهمه آخرون بالكفر. هو ليس هذا ولا ذاك. فقط يؤمن بالله، ويؤمن أن محمد نبي، ويصلي في الكنيسة، ويعظ الناس. في عظاته، لا يشبه مطراناً. يحكي عن أهمية العمل التطوعي والحراك الاجتماعي. هذه عبادة أيضاً. وفي المستشفى حيث يمضي أيامه حالياً، ما زال متفائلاً. يعرف كل مآسي المنطقة والعالم ويبتسم. يفرح أكثر حين يزوره أبناؤه. هو "أبونا". لا يحب الألقاب، لكنّ يحب روحية هذا اللقب ويمارسها. احتضن الشباب من خلال الحركة الاجتماعية عام 1957 وصار أباً لهم، ولاحقاً تيار المجتمع المدني (1998)، وهو تيار سياسي لا يهدف للوصول إلى السلطة. بين الحركة والتيار، كان يشعر أنه لم يحقق شيئاً، أو لنقل الكثير على الصعيد الاجتماعي. وبعد مشاورات مع عدد من المثقفين والناشطين، توصل إلى قرار أن التغيير يجب أن يبدأ من صلب المشكلة، أي السياسة التي تتحكم فيها الطوائف وليس المجتمع، فكان التيار الذي عمل على تعديل عدد من القوانين (الانتخابات، ضمان الشيخوخة، الزواج المدني وغيرها). مرة واحدة فقط شعر بالإحباط، وقد قال ذلك لدياب. يذكر كلمته جيداً، فقد قال له إنني "استُهلكت". مرّ هذا الشعور سريعاً. لم يقبل الاستسلام. "هذه معركتنا". وحين يزوره شباب التيار بين الحين والآخر لاطلاعه على نشاطاتهم ومشاريعهم الجديدة، يفرح ويوجّههم. يجلبون له الكتب الذي يطلبها. غريغوار يقرأ طوال الوقت. يهتم بالأديان وتاريخها. كانت أفكاره أكبر منه. أراد "إنسانية الإنسان". يذكر دياب أنه خلال أحد الاجتماعات، اقترح أحدهم توزيع المساعدات على المؤسسات الاجتماعية والخيرية بحسب قدراتها، كأن تصنف بنجوم. علّق حينها، "ندخل في حرب النجوم إذاً". كان يُدرك جيداً الصراع بين هذه المؤسسات، الذي يؤدي إلى إفشال الحراك الاجتماعي. آمن وما زال بالعلمانية. وما ينادي به لا يدعو إلى الخوف. لم يرد منها إلغاء العالم الماورائي الذي يؤمن به. على العكس. كان يؤمن أن لهذا العالم قوانينه، على أن تبقى قوانين العالم الماورائي في إطارها. في رأسه مشاريع كثيرة. مثلاً، أراد أن يعتني كبار السن بكبار السن في الحي الذي يسكنوه. الأصغر سناً منهم يلبي طلبات العجزة لساعة أو ساعتين يومياً. كان له أيضاً ما سمي بالـ "الكومبيوتر البشري"، وهو عبارة عن فريق يعد دراسات حول القضايا الاجتماعية في مختلف المناطق. حين يزوره الناشط في تيار المجتمع المدني باسل عبدالله، يسأله غريغوار: "متى ستحضر العروس؟"، فيبتسم الأخير. يقول إنه من الأشخاص الذين نادراً ما نرى مثلهم على الأرض، ربما كل 50 أو مائة عام، هو الذي علّمه اللاعنف. يذكر أنه حين بدأ الحراك في لبنان لإسقاط النظام الطائفي، أصر غريغوار على المشاركة، وإن اكتفى بالجلوس لبعض الوقت في السيارة قبل المغادرة، بسبب إصابته بمرض ترقق العظم. غريغوار الذي عيّن نائباً عاماً على أبرشية بيروت للروم الكاثوليك، ورسم أسقفاً عام 1965، وثم مطراناً أصيلاً بعد وفاة المطران فيليبس نبعة، كان قادراً على جلب المساعدات من عدد من الدول والأفراد. هو مصدر ثقة، بحسب دياب. وكان يحب إعطاء المساعدات إلى المحتاجين مباشرة. أيضاً، أنشأ الحركة الاجتماعية للسكن، وقد استطاعت توفير السكن لأكثر من مائة عائلة. اعتاد أن يجلب للمتطوعين شطائر اللبنة أثناء الاجتماعات. في إحدى المرات، سأله دياب: وهل سنأكل اللبنة أيضاً؟ أجابه: اليوم مرتديلا (لحوم معلبة). لا يخاف الموت، هو الذي أرضى ربه أكثر مما هو مطلوب منه.
عن العربي الجديد)
تعليقات: