أجران معصرة دبس حجرية (طارق أبو حمدان)
باتت معاصر العنب الحجرية القديمة، المنتشرة في معظم قرى وبلدات حاصبيا، معالم تراثية منسية ومتروكة للزوال، تحولت، مع الانخفاض في انتاج الكرمة وتوقفها عن العمل، الى مواقع مهملة، تقصدها فئات واسعة من المجتمع اللبناني، لتجد في حناياها فسحة تعيدها بالذاكرة الى حقبة قديمة، كانت فيها زراعة الكرمة وحقول العنب بمختلف انواعه منتشرة بشكل واسع، في هذه المنطقة الجبلية الخصبة، نظرا لمناخها المعتدل، وطبيعة تربتها الملائمة لهذه الزراعة، التي تراجعت، وبنسبة مرتفعة، خلال نصف القرن الماضي لصالح شجرة الزيتون.
هذه المعاصر المنحوتة والمحفورة وسط صخور صمّاء، تضم مصاطب حجرية واسعة، وإلى جانبها مجموعة من الأجران المحفورة في الصخور، منها على شكل دائري وأخرى مربعة بعرض حوالي المتر وبعمق لم يتجاوزالـ70 سم، وعلى بعد أمتار منها هناك «الموقدة» التي تكون عادة بعرض يتجاوز الـ125 سم وبارتفاع 75 سم، بحيث يتم اشعال الحطب كوقود للنار تحت الوعاء الكبير المسمى «خلقينة» الذي يملأ بعصير العنب، ويستمر اشعال النار تحته ما بين 3 الى 4 ساعات، وهي الفترة اللازمة لطبخ العنب، عبر تحويله من عصير عادي الى مادة لزجة وكثيفة تلازم صفة الدبس البلدي.
موسم الدبس كان فرصة للقرويين، يجتمعون خلالها ويتعاونون في قطف الكروم، ونقل المحصول الى المعصرة بواسطة الدواب، ثم تحضير الحطب ، لتبدأ بعدها رحلة العصر والطبخ و من بعدها تبريد الدبس، لاستيعابه في خواب وجرار فخارية، تحفظه من عام لعام.
معاصر العنب الحديثة، اوقفت العمل بالمعاصر الحجرية، فتركها اصحابها، لتتحوّل إلى أمكنة مهجورة، تملأ أجرانها مياه الأمطار وتتجمّع النفايات في مواقدها، بعدما كانت حتى سنوات قليلة مضت، مكاناً يجتمع فيه أهالي القرية، يتبادلون الأحاديث والأخبار بعد عناء يوم عمل طويل في الحقول.
فارس، صاحب إحدى المعاصر الحجرية، تخلى عن هذه المهنة بعدما تهافت المزارعون على المعاصر الحديثة، كونها اسرع في عصر الدبس وتوفر الوقت والعناء، اشار الى اكثر من 18معصرة كانت موزعة في قرى حاصبيا والعرقوب، وهي في الطريق الى الزوال والانقراض.
يعود بالذاكرة لطريقة تحضير الدبس ليقول :كانت أكياس العنب توضع على «المصطبة» وتُرشّ عليها مادة ترابية بيضاء كانت تسمّى حوّارة تساهم في امتصاص الحموضة وتنقية الشوائب، ثم يدعس العنب بالأرجل فيخرج العصير من العناقيد ويجري باتجاه الجرن الحجري حيث يتم تجميعه، لينقل بعدها إلى «الخلقينة» التي توضع على الموقدة، ويترك العصير يغلي على نار هادئة، حتى يتحوّل لونه إلى أحمر غامق، وهذه العملية الأخيرة تحتاج لعاملين، أحدهما يهتم بإشعال النار حيث يضع الحطب في الموقدة، والآخر يحرّك العصير بعصاً خشبية، لكي يشتّد ويصبح دبساً، وغالباً ما كنّا نتقاضى أجر العصر دبساً. ويضيف «لموسم التدبيس ذكريات جميلة، فكانت المعصرة ملتقى لأهل الضيعة حيث تروى الحكايات والقصص خلال عصر العنب وغليه، ومشاركة جميع الأهالي بعملية العصر كانت مثالاً واضحاً عن النخوة الريفية، والسهر حتى الفجر حول «الخلقينة».
يجمع ابناء قرى حاصبيا على فوائد الدبس، فهو مصفاة الدم كما يقولون، ويساعد في المحافظة على نضارة البشرة، يقضي على ما يعرف بتشمّع الكبد، يسهل عملية الهضم ، يُستخدم كعلاج للخلاص من مرض «التيفوئيد» والصفيرة، كما أنه ينشط الأعصاب وهذا ما جعل كبار السن يسمّونه «أبو عصبين»، عدا احتوائه على مادة تسيّل الدم وتوسّع الشرايين، وهناك ظاهرة صحية قديمة جديدة، ألا وهي الاستعاضة بالدبس عن مادة السكر، في صنع بعض الأنواع من الحلويات إضافة الى استهلاكه في المنازل والمطاعم.
العديد من اصحاب هذه المعاصر، ناشدوا الجهات المعنية، التحرّك السريع للحفاظ على معاصرهم الحجرية، عبر ترميمها وادخال تعديلات على مكوناتها، كونها جزءاً أساسياً من الهوية التراثية لهذه المنطقة.
تعليقات: