بعد حوالي أربعين يوماً يقترع الفرنسيون في فرنسا والعالم واحداً من المرشحين لرئاسة الجمهورية، وذلك في الدورة الأولى من الانتخابات. وبعد أسبوعين من الدورة الأولى يختارون أحد المرشحين اللذين ينالان أعلى الأصوات في نتائج الدورة الأولى.
عدد المرشحين، حتى اليوم، بلغ الرقم القياسي في تاريخ الانتخابات الرئاسية الفرنسية: أربعون مرشحاً. والمعركة تشتد حماوتها يوماً بعد يوم، استقصاءات الرأي العام التي تجريها المؤسسات العلمية المتخصصة في هذا المجال لا يتوقف عملها. وبورصة نتائجها تشهد تحركات مفاجئة من هبوط وصعود أسهم المرشحين الأمر الذي يظهر أن خيارات الفرنسيين في هذا الاستحقاق متأرجحة وغير محسومة ما يحمل المرشحين الى استنباط وسائل جديدة يستخدمونها في حملاتهم لتغيير توقعات الرأي العام لمصلحتهم. ولا يزال يتعذر على المتخصصين في علم السياسة التكهن بالنتائج التي ستسفر عنها الانتخابات. كذلك تبدو مؤسسات استطلاع الرأي حائرة حيال تقلب المقترعين.
آخر الاستطلاعات التي جرت الأسبوع الماضي أفرزت ظاهرة جديدة وهي ميل الفرنسيين غير التقليدي الى الاقتراع لمرشح لا ينتسب الى اليمين التقليدي (نيقولا ساركوزي) ولا الى اليسار التقليدي (سيغولين رويال) بل الى الوسط. ويمثل هذا الوسط أفضل تمثيل المرشح فرنسوا بايرو. فبعض مؤسسات الاستطلاع التي لم تكن تعطيه أكثر من ثمانية في المئة من نيات التصويت، باتت ترجح فوزه في الدورة الثانية إما ضد رويال وإما ضد ساركوزي إذا تخطى الدورة الأولى، الأمر الذي تظهر الاستطلاعات أنه غير مضمون.
المرشحون البارزون والأساسيون هم تحت الأضواء في كل ما يعملون ويقولون. لا بل في كل ما عملوا وقالوا. فكاميرات المراقبة تلاحقهم بدون انقطاع وملفاتهم القديمة والحديثة يفتحها المنافسون وينشرون كل ما من شأنه أن يسبب للمنافس خسارة في نقاط استقصاءات الرأي العام.
نتوقف هنا عند مواقف كل من المرشحين الأبرزين ساركوزي (اليميني) ورويال (الاشتراكية) حيال العرب والمسلمين الفرنسيين لنرى كيف أن هذه المواقف تلعب سلباً أو إيجاباً لمصلحة كل من المرشحين. فلما كان الرئيس الفرنسي ينتخب، تقليدياً، بفارق ضئيل مع منافسه (ما بين واحد الى أربعة بالمئة من الأصوات)، فإن أصوات المقترعين المسلمين والعرب، إذا ما انحازت بمعظمها الى هذا أو ذاك المرشح، إنما قد ترجح كفة ميزان الفوز.
فالمرجح أن المرشح الأوفر حظاً (حتى اليوم ووفق استطلاعات الرأي)، نيقولا ساركوزي، لن يقترع لمصلحته معظم العرب ومعظم المسلمين الفرنسيين. فسياسته، كوزير للداخلية، حيال الأجانب والمهاجرين، ولا سيما المغاربة العرب والأفارقة المسلمين، هي سياسة القمع، واعتماد ما سمي بـ"الحل الأمني" الذ يستخدم القوة والردع ولا يسعى الى تحليل الأوضاع والتفتيش عن الأسباب واعتماد سياسة التغيير في ظروف حياة هؤلاء الأجانب والمهاجرين. والكل يذكر ثورة ضواحي المدن الكبرى الفرنسية التي قامت منذ أكثر من عام والتي جابهها ساركوزي بالقوة وبطريقة قيل عنها أنها "كاوبوية"، وقد وصف القائمين بحركة الاحتجاج بـ"الرعاع".
من جهة أخرى، معروف ان الحضور الجزائري في قلب فرنسا هو الحضور الأكثر كثافة، يليه الحضور المغربي والتونسي. والعلاقات الفرنسية/ الجزائرية، بتأثير من الاستعمار الفرنسي للجزائر، تتسم بالتأزم وعلى الرغم من المظاهر المعاكسة ومن المحاولات لتحسين تلك العلاقات. من الأمثلة البارزة على العلاقات المتأزمة القرار الصادر عن البرلمان الفرنسي، في 23 شباط 2005، والذي تضمن تمجيداً للاستعمار الذي مارس "الانسانية والحضارة" في المستعمرات الفرنسية القديمة، ولا سيما في منطقة الشمال الافريقي (والمعني هنا الدول المغاربية بشكل عام، والجزائر بشكل خاص التي خضعت للاستعمار 132 عاماً، من 1830 الى 1962)، أثار هذا القرار ردة فعل عنيفة، رسمية وشعبية، من قبل الجزائريين، وعلى الرغم من تدخل الرئيس جاك شيراك للتخفيف من حدة القرار المكتوب، فإن الأزمة بقيت قائمة.
قام المرشح ساركوزي، منذ حوالي شهرين بزيارة "انتخابية" الى الجزائر. لكنه، عندما وقف يستعرض ما بحثه من مواضيع ورؤيته لمستقبل العلاقات بين البلدين، لم يجد حرجاً في التعبير عن رأيه الرافض للاعتذار عن مرحلة الاستعمار وعذاباتها، فقال بالنص الحرفي: "لا يمكن أن نطلب من الأبناء الاعتذار عن أخطاء آبائهم"...
من جهة أخرى، نشرت مجلة "تشارلي إبدو" الفرنسية، في الأسبوع الأول من شباط الفائت، خبراً يفيد بأنه في الدعوى التي أقامتها جماعات مسلمة على المجلة المذكورة لنشرها رسوماً كاريكاتورية مسيئة الى النبي محمد، تلا وكيل المجلة رسالة من ساركوزي جاءفيها: "أفضل الافراط في الرسوم الكاريكاتورية على فقدانها"! ومعروف أن وزارة ساركوزي (الداخلية) مسؤولة عن الشؤون الدينية!
أما المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال فقد بعثت برسالة الى الرئيس الجزائري حملها له، في 4 شباط الفائت، مستشارها وزير الثقافة السابق جاك لانغ، جاء فيها: "إن أولويتي ـ إذا انتخبت ـ أن أرسي معكم أسس علاقة متينة بين بلدينا (...) إن الاستعمار نظام هيمنة ونهب وإذلال". وقالت ان علاقة جديدة مع الجزائر لا بد أن تسود ولا يمكن فصلها عن سياسة الاحترام إزاء الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا...
لكن، على الرغم من الاختلاف في موقفي المرشحين حول العرب والمسلمين، فإن ساركوزي يخسر أصواتاً عربية وإسلامية ولكن يعوّضها، استناداً الى موقفه هذا، من اليمين المتطرّف وحتى من بعض أصوات اليمين التقليدي. فإن موقفه هذا من الأجانب والمهاجرين هو موقف "شعبوي"، إن لم نقل شعبياً.
تعليقات: