المطران غريغوار حداد الرجل الرسالة، الذي نذر حياته لخدمة الفقراء والمهمشين، من بعد أن ملأ قلبه بمحبة الله والاخلاص لتعاليم المسيح، فحار
لا يمكن أن يستحضر المرء صورة للمطران غريغوار حداد خارج إطار خدمة الإنسان والقيم الإنسانية السامية. الرجل الرسالة، الذي نذر حياته لخدمة الفقراء والمهمشين، من بعد أن ملأ قلبه بمحبة الله والاخلاص لتعاليم المسيح، فحاربه المتعصبون الجاهلون، في الوقت الذي كان فيه سنداً للمؤمنين والعاملين من أجل خير المجتمع من دون تمييز بين دين وعرق وانتماء.
هو الذي يؤمن بأن الله على مسافة واحدة من جميع الأديان، وأن «معركة الإنسان واحدة ومتنوعة، وهدف الانسان في معركته أن يصبح إنساناً، أن يصبح كلُّ إنسانٍ إنساناً. وهي تعني معركة رفض كل أشكال الحواجز التي تمنع، ولو فرداً واحداً من البشرية، أن يصبح إنسانا». كانت وصيته الأخيرة للشباب، في تشرين الأول الماضي، حيث خاطبهم معتبراً أنهم الغد، وأنهم وحدهم القادرون على إزالة كل أنواع الفساد والنفايات من لبنان».
هو المصلح الاجتماعي الذي كان لي شرف العمل معاً منذ ثلاثة عقود تقريباً، وذلك من خلال الهيئات التطوعية التي أنشأها كـ «هيئة تنسيق المستوصفات» و «التنسيقات الاجتماعية الانمائية» ومن ثم في «تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان» حيث تولى تباعا مسؤولية المنسق العام فيه. وقد حاول المطران حداد، في تجربته الاجتماعية، تطبيق ما تنادي به الكتب السماوية التي تعمل على تنظيم شؤون البشر في تأسيس العمل التطوعي عبر التكافل الاجتماعي على الأرض. وذلك منذ عام 1957 حين أسس «الحركة الاجتماعية»، كحركة مدنية تطوعية ملتزمة الإنسان والمجتمع والتنمية، وبالرغم من كونه رجل دين متعمقا ولاهوتيا عتيقا، إلا أنه لقب بالمطران الأحمر لأنه حاول الفصل بين الالتزام بالعقيدة الدينية التي هي حق لكل فرد، وبين التعصب الضيق والطائفية، فكان حضناً يتسع لكل ابناء الوطن من كل الطوائف والاديان.
يا نساء العالم اتحدن
ففي بداية التسعينيات وتتويجاً لسنوات طويلة من العمل الدؤوب ثم إنشاء «تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان» والذي يضم 14 جمعية لبنانية، وملتقى الهيئات الإنسانية والذي يضم 12 هيئة (LNF). يضاف إلى هذين التجمعين قطاعات أساسية غير حكومية من مؤسسات المجتمع المدني منها «المجلس الوطني للخدمة الاجتماعية» و «المجلس النسائي اللبناني» وهيئات تنسيق الإعاقة البيئية، الطفولة، الشباب، حقوق الإنسان والهيئات الثقافية، ونذكر هنا في إطار دفاعه عن المرأة وعن المظلومين قوله: «كانت صرخة ماركس وانجلز «يا عمال العالم اتحدوا» بدء تحول كبير إيجابي في تاريخ البشرية. فلو اعتمدت نساء العالم شعاراً «يا جميع نساء العالم اتحدن» ولو تنظم اتحادهنّ شيئاً فشيئاً على أهداف لها قيمتها، لتضاعف هذا التحول الإيجابي في العالم... ولو كانت الصرخة «يا جميع النساء والعمال والشعوب المظلومة عنصرياً اتحدوا»، لتكونت في العالم طاقة كبرى، لأجل تغيير البشرية وجعلها أكثر إنسانية».
لقد حاول المطران حداد، في أطر العمل المشترك أن يجعل من العمل الاجتماعي، التطبيق العملي لمضمون العقائد، سياسية كانت أم دينية، لأنها جميعها تدعو إلى إنصاف الناس والعدالة في المجتمع، أي احترام إنسانية الإنسان بمعزل عن انتمائه السياسي أو الديني أو الجغرافي، والعمل على مد جسور الحوار والعمل المشترك بين الناس، واستثارة الجانب المضيء داخل كل واحد منهم وإضعاف العدوانية والهجومية من داخلهم، أي رفع شعار التركيز على الإيجابي والعمل على تطويره في ما بينهم والإنشغال بما يجمع وليس بما يفرق، أي: إيجابية التعامل والتفاؤل المستمر.
الحقيقة المتعددة
هذا ما تعودنا عليه مع المطران غريغوار، الذي اكتشف من خلال عمله الميداني الطويل وفي أحلك الظروف الأمنية والسياسية وجود أصولية فكرية عاهتها الأساسية ادعاء كل طرف امتلاكه الحقيقة دون سواه الاخر وتعامله مع الآخر من موقع رفضه وتخوينه، انطلاقاً من الاعتقاد أن الصراع دوماً بين ملائكة وشياطين، وأن الآخر هو دوما شيطان (وهذا جزء من فقر تربيتنا الديموقراطية) لذا اختار منذ دخوله العمل في الشأن العام أن يسعى إلى تجميع الطاقات وإلى تقريب وجهات النظر في خدمة قضية الوطن والإنسان.
لقد كان خيار المطران أن يكون إلى جانب الإنسان كل إنسان، والمنظمات الأهلية بالنسبة له هي منظمات لها رؤية انمائية محددة، ويتمحور عملها في حقول: المشروعات الانمائية، والطوارئ وإعادة التأهيل، وكذلك ثقافة التنمية والدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على أن تكون المنظمات الإنسانية أنساقا منظمة في تقديمها للخدمات الاجتماعية، أي تقدمها كمؤسسة مصممة أساساً للدفاع عن مصالح الجماعات وحمايتها من أجل حياة أفضل.
لم يتنازل «مطران الفقراء» يوماً عن قناعاته حتى أنه يوم كان مطرانا لابرشية بيروت تململ البعض من بساطته وفقره وافتقاره الى مظاهر البرجوازية، واعتبروه لا «يمثّل» خير تمثيل مركز مطران يترأس اكبر ابرشية للروم الكاثوليك في البلاد العربية واهمها، عددياً واقتصادياً، خصوصاً وأنه كان واحداً من المطارنة الذين وقّعوا وثيقة يتعهدون فيها ممارسة الفقر في حياتهم الشخصية، وقد صدرت تلك الوثيقة في الدورة الاخيرة للمجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965.
إضافة إلى مسيرته الحافلة ونضالاته الطويلة، قد قيل عنه أنه «رجل بلا قناع»، فهو لا يتردد في الافصاح عن معاناته الداخلية، لانه لا يعيش لذاته. رجل يعرف ماذا يريد، وفي تعبير آخر، يعرف ما يريد منه الله، فكيف للمرء أن يرثي رجلاً كهذا، يرفض اللقب الأسقفي «سيدنا»، ويردد دائماً: «كلنا متساوون أمام الله»، أي كلام ممكن أن يقال فيه!
إنه رسالة، والرسالة لا تموت والأفكار العظيمة تخلد، لذلك كان المطران غريغوار حداد دوماً أكثر من مجرد إنسان، بل كان الرسالة التي حملناها جميعاً وستخلد إلى يوم ينصرها جيل المستقبل الذي لطالما آمن به المطران الأحمر.
(]) رئيس «مؤسسة عامل الدولية» والمنسق العام لتجمع الهيئات الاهلية التطوعية في لبنان
تعليقات: