يرحل محمد العبد الله أحد نجوم جيلنا والمثال المتطرف لهذا الجيل في تمرده وقلقه وأحواله العاصفة وفي مزاجيته وتموجاته وفي موهبته الوقادة السيالة، وفي فتنته وفرديته الشامخة وفي عناده وفي... مأسويته.
كان محمد العبد الله فوق ذلك النموذج الأكمل للمثقف الذي انشق عن وسطه وجماعته في مسعى لاندماج في وحدات أكثر وأكثر تاريخية. اندماج حتى الفناء وفردية حتى التصلب. وجهان لا يتنازعان فقد ضمهما مشروع لا مكان له إلا في شغف بلا حدود وحنين لا ينفك فياضاً طافحاً، وذات جريحة ترعف وتشرب من دمها، وقدر بحجم المجرّة. مشروع بدأ عيداً وعرساً كبرنا فيه حتى ضقنا بقاماتنا، وحتى لامسنا نجوماً في مخيلاتنا، وحتى ارتفعنا إلى السماء. لكن الدهر تقلب وعلينا، واستيقظنا على شتات فظيع، وسقطنا عن قاماتنا المتخيلة واحترقت النجوم في اعيننا وانحدرت بنا السماء. جيل من الممثلين الذين خسروا أدوارهم، ومن الموعودين الذين باخت وعودهم، ومن المحاربين بلا ميدان وبلا معركة، ومن المهاجمين على اعقابهم، ومن الملحميين بلا ملحمة، ومن المقاتلين ضد اشباحهم، ومن الشعراء الذين عاقبتهم اللغة، ومن الشغوفين حتى لحاء القلب، ومن الباحثين عن ذواتهم في الوعر وفي العقم وفي اليأس. كان ذلك جيلاً بطوليا بلا بطولة، ودراميا بدون حكاية ونخبوياً على الفتات والكسر، وشامخاً بدون بناء وإذا كنت أقول ذلك، فلأن رحيل محمد العبد الله، وهو يصارع قامته ونبرته ونطقه، هو الرثاء الأول لهذا الرعيل.
«رسائل الوحشة» كانت اثراً فاتناً، بل لعلها من فرائد معدودات في الشعر، لكن محمد أكبر من فرائده وعصماواته. ما كان كثيراً عليه أن يزويها وأن يلقيها جانباً، فهو بهذه الشهوة الوحشية للحياة لا يشبع جوعه جمال، أي جمال، وهو بهذا العصف الذي تقلّب به في الحياة، ما كان يستكثر على نفسه شيئاً. «بعد ظهر نبيذ أحمر، بعد ظهر خطأ كبير» بهذا العنوان الرائع وسم محمد العبد الله مجموعته الأخرى، كان شعراً يعلوه لكنه ما كان ليكترث وما كان ليرتدع. أجمل الشعر وأقله جمالاً يضلان دونه، هو الذي يبتكر الأجمل كما يبتكر الأقل جمالاً، وهو الذي يتقدم على شعره، قلبه وخياله ولسانه مواطن شعر لا شبيه له ولا شيء يضاهيه.
الشعر الذي في اعماقه، في جوعه العميق للحياة، في شهوته الوحشية، في نبرته وحركة قامته، كان هناك شعر يتكون كل لحظة، وتحت كل حركة، وفي كل إشارة، كان يرتجل الشعر بفمه وعينيه وأسنانه وعروقه. يقول الألوان والصفات والايقاعات ويحرك حاجبيه تصديقا على ما يقول. يشمخ بصوته بنشيد وبلا نشيد، لكأن شيئاً من التفوق على الحياة يتحول في لحظة إلى ازدراء لها. شيئاً من ابتكار الحياة يتحول تعالياً عليها، أمر ظهر في ساعاته الأخيرة كما ظهر في ساعاته الأولى، هو الذي لم يكن يبحث عن الجمال فحسب، بل يبحث عن آلة الاحتقار، يبحث عن آلة اللااكتراث، ولكن أيضاً يصوغ نفسه ويصوغ صوته ويصوغ أنفاسه كما يصوغ القصيدة. كان جسده كما كانت قامته أيضاً كما كانت شهواته آلة الحياة، وهو هكذا استثمر الحياة كآلة واستثمر جسده كآلة، واستثمر اللغة كآلة، وعاش والعالم كله آلته. التهم الحياة وخرج الشعر من قلبه ومن معدته، ولا بد أن الشاعر وهو يرحل ترك طبعته على حياة فضّل الا يكملها، وقصيدة آثر أن لا ينهيها.
سجل التعازي بالمرحوم الشاعر محمد علي حسين عبدالله (أبو رضا)
تعليقات: