محمد العبدالله بريشة رضا محمد العبدالله
آه أيّها العزيز جدا ألونزو، هكذا تنتهي الرحلة ها هنا. انتهى ذلك الهيمان يا فارسي الشجاع. انتهت المغامرات، المعارك والتحدّيات. أنت متعب ألونزو، بلى أؤكّد لك. ثمّ، أنظر إلى المسكين سانشو، هو منهك ويتضوّر جوعا، لقد تاه طويلا، جاب كثيراً من الطرقات وواجه الأخطار بشجاعة. حرّره الآن، دعه يعود إلى بيته. أنظر إلى روسينانت، إنها تستعطفك الآن بعينيها الرطبتين أن تتوقّف الآن. لم تعد تريد التقدّم، كفى مغامرات، كلّ ما تريده اليوم من سائسها هو مكان في اسطبل والقليل من الشعير، وبعض الماء، ألونزو. أترك رمحك، وفكّ درعك الثقيل، فأنت لم تعد قادرا على حمله، ثمّ أنت لن تحتاج دروعك حيث أنت ذاهب. حسنا، أعطني إيّاها، سأحتفظ بها، وسأعنى بها فلا تقلق. أطلق سانشو وروسينانت وتعال معي. أنظر ألونزو نحن نكاد نصل، لم يعد الطريق طويلا.
أترك الأوراق الآن، حكاية فارس المانشا صارت نهاياتها معروفة ولن تفاجىء أحداً. تعالى معي.
من هنا، أنظر، لا تخف إيّها الرجل الصغير الشجاع، أنظر نهاية هذا الدرب القريبة. تقدّم. أنا أمسك بيدك. أمسك بيدك الصغيرة جداً. نهاية ذلك الطريق المحاط بأشجار الزيتون. أنظر إلى الشمس الساطعة هناك، أنظر إلى لون السماء، هل رأيت قبلاً زرقة بهذا الإشعاع؟ فقط في الربيع تكون الزرقة بهذه القوّة. سيكون ربيعا دائما من الآن، والشمس لن يخبو سطوعها وسيتوالد الأزرق بتدرّجاته الجميلة يوما بعد يوم. شدّ على يدي بقوّة، أنظر، أنت تعرف الطريق، أوكّد لك، تذكّر، لم يعد طويلا، بضع خطوات وتصل. امشها صوب هذا الربيع الجميل الذي ينتظرك، صوب أشجار الصفصاف البعيدة التي تفتح لك ذراعيها. هل ترى ذلك البيت الحجري بسقفه القرميدي، القريب من شجرة التين إيّاها. إنهما بانتظارك. شراشف بيضاء ناصعة تنشف في الشمس وترقص فالس النسيم الربيعي. بذورالحديقة الصغيرة نبتت من زمان، والشتلات لا تكفّ عن الوعد بأطايب الصيف. هيفاء لعبت بالنطّ على الحبل طيلة الصباح، وهي تمرح الآن بالدوران بفستانها الربيعي الصغير في الحديقة. أمّك تستعد منذ الفجر وقد سرّحت شعرها الطويل ورطّبته بزيت الزيتون، وضفرته في جديلة طويلة، كما تحب. لبست أحلى ما عندها وتعطّرت بالورد، ودسّت حفنة من الياسمين في عبّها. حضّرت لك السرير بعناية. كانت شمّست الوسائد والأغطية بعد كيّ الشراشف التي عطّرتها بالآس والخزامى.
لكنّي أعرفك أيها الرجل الصغير. لن تعود رأسا إلى البيت. ستشقّ عبر الحقالي وتتمرّغ وقتا في الحشيش الأخضر. ستذهب للاستحمام والسباحة في بركة الدردارة ولو أن المياه فيها ما زالت باردة، ستضع أفخاخا للعصافير والأرانب، وستسرق من الحقل بضع قرون من الفول الأخضر والبازلاء. ستتسلّق الأشجار وتقفز بين الأغصان ما همّ إن تجرّحت ركبتاك. ستنفخ على رؤوس الهندباء البريّة من أجل أمنيات سوف تتحقّق، وستستلقي على العشب لتتابع أشكال الغيوم المتغيّرة المدهشة. وإن عاودك الجوع فسوف تسرق فاكهة فجّة، تقضمها بشراهة بأسنانك الحليبيّة من دون غسلها، فما همّ القليل من وجع البطن. ثمّ ستروح تُشعر نفسك بالخوف وأنت تضيع عن قصد في بساتين الزيتون الواسعة، لكنّك ستجد سبيلك عائدا، راكضا حتّى قطع الأنفاس بين الأقحوان والقمح. وعند حلول العتمة ستتعب من كلّ هذا اللعب. في العودة لن تأخذ الطريق السالكة، فأنا أعرفك جيّدا. ستستدلّ بضوء القنديل المعلّق عند باب البيت. ولن تنسى لمس رؤوس القمح الأخضر التي ستنحني سنابله لتفتح لك الطريق. وحين تصل ستدفع الباب وتجد سريرا واسعا بشراشف مكويّة ومعطّرة، ومكانا هو لك بين الاثنتين. ستنزلق بينهما وتضع رأسك على صدرها الدافىء. عندها فقط سوف تنام، بسلام، تهدهدك عذوبة صوتها يرندح من أجل عينيك الجميلتين السوداوين، في فوحان الورد والياسمين.
الآن ينبغي عليّ أن أترك يدك الصغيرة. في يوم كانت يداك باردتين قلت لي: "الآن سوف نبكي". نعم سوف نبكي أيها الطفل الجميل. سوف أشتاق إليك. لكن البكاء قليلا ليس بالأمر الخطير أيّها الرجل الصغير. ستكون دموعنا ساخنة لتدفىء يدينا الباردتين. ينبغي أن أترك أصابعك الصغيرة، الناعمة والدافئة، لا ليست باردة. كم هو صعب أن أسحب يدي من يدك! أعتقد أنّه عليك أن تترك يدي بحركة واحدة، كما حين نسلخ ضمادة الجرح بقوّة حتّى نخفّف الألم. هيّا الآن، إنهما بانتظارك. لكن دعني فقط أنظر إليك وأنت تركض إلى البعيد مرّة أخيرة.
(عن مجلة المدن الألكترونية)
نقلت النصّ عن الفرنسية هدى بركات.
------------ --------------
تقبُّل التعازي في بيروت بالشاعر الراحل محمد العبدلله
تتقبّل الأسرة الأدبية والثقافية في لبنان، إلى جانب عائلة فقيد الخيام الكبير الشاعر محمد العبدلله، التعازي في بيروت من الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 1 نيسان 2016 لغاية السادسة مساءً في مركز الجمعية الإسلامية للتوجيه والتخصص العلمي، الكائنة في محلة الرملة البيضاء.
تعليقات: