لقائي بالبطل العالمي محمد علي كلاي


محمد علي كلاي، حان للأسطورة أن تترجل..

عشنا فترة الطفولة وأولى مراحل الشباب في النصف الثاني من ستينات وكل سبعينات القرن المنصرم ونحن هاجسنا البطل العالمي المسلم محمد علي كلاي، البطل الذي لا يربح مباراته الا بالضربة القاضية. وكبر في أنفسنا أكثر عندما رفض في عام (1967م) الخدمة العسكرية في الجيش الأميركي، لكي لا يتوجه الى محاربة الفقراء والفلاحين في فيتنام، وحينها قال عبارته الشهيرة (لم يخاطبني الفيتناميين ابدا بكلمة "يا زنجي") و واكبنا أخباره يوما بيوم اثناء فترة تجريده من لقبه العالمي ومحاكمته العسكرية المتسرعة وزجه في غياهب السجن نظير عدم امتثاله للأمر العسكري آنذاك، حيث كانت أخباره تتصدر الصفحات الأولى للصحف اليومية في تلك الأيام وكان جيلنا مع بداية فكه للحرف، فكنا نتسارع بتلهف لمطالعة الصحف بعد أن يضعها جانبا آبائنا، علنا نجد خبر عنه.

كنا ندرس في المرحلة الابتدائية أنا واخواني في كلية مرجعيون الوطنية، وكنا نقيم بالقسم الداخلي في نفس المدرسة، نظراً لسفر الأهل للعمل في أفريقيا (1970-1973م)، وكان هناك عادة جيدة في جديدة مرجعيون حينذاك، بأن كل وفد اغترابي زائر للبلدة يجب أن يقوم بزيارة تفقدية للمدرسة كجزء من برنامج زيارته للمنطقة، (هناك آلاف اللبنانيين المتحدرين من جديدة مرجعيون موزعون في مختلف أصقاع عالم الانتشار اللبناني)، ويلتقي الوفد بالتلاميذ وبالأخص المقيميين بالقسم الداخلي نظرا لتواجدهم الدائم بالمدرسة وبالأخص في عطلة نهاية الأسبوع، حيث يلقي رئس الوفد كلمة بينهم ومن ثم يبدأ الوفد بالإجابة بمنتهى روح الإيجابية على أسئلة التلاميذ العفوية وقد تكون ساذجة في بعض الأحيان، وتشاء الصدف أن يأتي لزيارة المدرسة في عام (1972م) وفد اغترابي من ولاية كاليفورنيا بأميركا، ويكون على رأس الوفد مكتشف وأول مدرب محترف للبطل العالمي محمد علي كلاي وكان المدرب من عائلة (سلامة) المعروفة في جديدة مرجعيون، فروى لنا بإيجاز مسيرة البطل وظروف إدخاله السجن، وخروجه منه والعمل بعزمٍ وجدٍ على استعادته للقب العالمي مهما تحمل من صعاب جمة ومشاق عسيرة . فسرحت مخيلتي حينذاك، وخاطبتي نفسي، ان كنت وأنا طفل قد التقيت بالمكتشف والمدرب الأول للبطل العالمي، فهل سوف تسنح الصدف مرة أخرى ويجود الزمان بفرصة اللقاء بالبطل العالمي نفسه في يوما ما.

وبعد انتقال المرحوم والدي للعمل بالإمارات في عام (1973م)، وفي أثناء وجود والدي في فندق الهيلتون بأبوظبي (الفندق الوحيد آنذاك بأبوظبي) يلتفت صدفة، فاذا بالبطل العالمي محمد علي كلاي شاخصا أمامه، فيمد يده تلقائيا للسلام عليه قائلا: "أنت اسمك محمد علي وأنا اسمي محمد مالك"، (كان والدي يجيد الإنكليزية نتيجة عمله السابق في افريقيا) وتضاحكا طويلا، وكان المرحوم والدي يمر على الفندق يوميا ويلتقيه ولو لبضعة دقائق في ردهة الفندق، حتى عند مغادرته أبوظبي، أوصله المرحوم والدي بسيارته للمطار.

وتمر أيام وتتوالى السنين واذهب للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، وفي ذات مساء من ليالي عام (1986م) أتلقى دعوة كريمة من أحد زملاء الدراسة اللبنانيين للعشاء في منزله، من دون أن أعرف مغزى العزيمة وخاصة أنها لم تكن في نهاية الأسبوع مثلما درجت العادة بين الطلبة الجامعيين، علما بأن الشاب المذكور كان لا وقت لديه، فقد كان معيلا لنفسه، أي يشتغل بأحد الفنادق لكي يؤمن مصاريف معيشته والرسوم الجامعية. فذهبت في الموعد المضروب، وكم كانت مفاجئة مذهلة لنا جميعا بأن حفل العشاء مقام على شرف البطل العالمي الأسطورة محمد علي كلاي، حيث كان في زيارة عمل خاص بمدينة أوكلاهوما حيث نقيم، ونزل في نفس الفندق الذي يعمل به زميلنا، فبعد توّثق المعرفة فيما بينهما، طلب منه زميلنا تلبية دعوة للعشاء في منزله، لكي يجتمع بالطلبة اللبنانيين الذين يدرسون بالمدينة، كان البطل العالمي في قمة التواضع والإنسانية، تكلم كثيرا عن فلسطين، والفكر الصهيوني المستوطن في أدمغة رجال السياسة الأميركيين طالما هم في الحكم، ثم ينقلبوا الى ملائكة رحمة بعد نزولهم من عروشهم. وتكلم لنا عن مشوار الإسلام الطويل في أميركا، وكم نحن بحاجة الى تظافر جهودنا كافة لنصرة دين الحق في تلك الأصقاع البعيدة، مشددا على أن حركة الأميركيين السود لن تستقيم وتنتصر الا بالإسلام، راوياً قصص من طفولته والمعاملة العنصرية التي كان يتلقاها من زملاءه البيض في المدرسة، ومجتمع قريتهم البسيطة. وطرح أمامنا بعض مشاريعه المستقبلية نحو رفع الظلامة على بني جنسه، وكذلك في سبيل نصرة الإسلام وتعزيزه بينهم. وتمازح معنا طويلا، فهو لديه الباع الطويل في القاء الطرّف والنكت التي تحمل أكثر من مغزى، وأجرى أمامنا بعض ألعاب الخفة التي كان يجيدها بإتقان.

وصادفت في تلك الفترة بداية ظهور أعراض مرض باركنسون على البطل العالمي (اكتشف المرض معه في عام 1984م)، فكان يغمض عينيه لبضعة ثواني تحسه وكأنه في اغفاءة بسيطة، ثم ينتبه لوضعه ويكمل حديثه وكأن شيء لم يكن، وهكذا كان طيلة الجلسة معه التي استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، ولاحقا قرأت في الصحف أن هذه حالة الاغفاءة تلك تفاقمت معه بدرجة كبيرة ومزعجة، سنة بعد أخرى الى أن قضى عليه ذاك المرض اللعين عن (74) عاما، فعليه رحمة من لدن غفور رحيم.

* الحاج/ أحمد مالك عبدالله




تعليقات: